عصام زكريا يكتب : محدش مرتاح.. فى عالم ماريان خورى!
عصام زكريا
يقول الأديب الإنجليزى الشهير أوسكار وايلد فى روايته «أهمية أن تكون أرنست»: «كل النساء يصبحن مثل أمهاتهن، وهذه مأساتهن. ولا يستطيع أى رجل أن يصبح مثل أمه، وهذه مأساته».
تذكرت هذه العبارة وأنا أشاهد فيلم «احكيلى» للمخرجة ماريان خورى، الذى يمثل مصر فى المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة الحالى.
هذا فيلم بديع، يبدو بسيطاً، وهو بالفعل مصنوع ببساطة متناهية، لكنها تلك البساطة الحقيقية، الصريحة، التى تحمل من التناقضات والعمق ما تحمله الحياة نفسها، مهما كانت بسيطة.
فى بداية الفيلم نستمع إلى تسجيل صوتى لجدة المخرجة تقول لابنها، يوسف شاهين، إنها لا ترى أن صناعة فيلم وثائقى عن العائلة فكرة جيدة: نحن عائلة تافهة وبسيطة، ليست هناك أحداث مهمة فى حياتنا، لا جريمة، لا طلاق. فيجيبها شاهين بعبقريته العفوية: ولكن قصص الجرائم والطلاق تصنع دراما سخيفة وسطحية. الحياة البسيطة تصنع قصصاً أفضل.
تثبت ماريان خورى صحة رأى خالها بصناعة هذا الفيلم، الذى حلم به ولم يستطع تحقيقه، عن العائلة التى تبين أنها ليست تافهة ولا بسيطة كما يبدو، ولكن على العكس شديدة الإنسانية والتعقيد، مثل معظم العائلات. وماريان، الموهوبة مثل خالها، عرفت بفطرتها وخبرتها أن فيلماً عن العائلة «من الخارج» لا يمكن أن يكون جيداً، وأن حديث المرء عن ذاته وعلاقاته الشخصية ببقية أفراد العائلة هو ما يمكن أن يكون نقطة ارتكاز وخطاً أساسياً ينبنى الفيلم حوله، وهكذا بنت الفيلم حول نفسها وعلاقاتها بابنتها وأمها وجدتها.
عن طريق النقاشات بين أفراد العائلة، ومقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية القديمة، ومشاهد من فيلمى شاهين «إسكندرية ليه؟» و«حدوتة مصرية»، وحوارات بين المخرجة وابنتها عن الفيلم نفسه، يتتبع «احكيلى» مصائر خمسة أجيال من نساء العائلة: أم الجدة، الجدة، الأم، ماريان، وابنتها.
يبدأ الخيط من نهايته، بحوار بين ماريان وابنتها عن علاقتهما، ورغبة المخرجة ألا تصبح علاقتها بابنتها مثلما كانت العلاقة بينها وبين أمها، ويمتد الخيط إلى الماضى ليرجع فى الزمن قرناً أو أكثر من الزمان، لنكتشف تدريجياً، وغالباً دون قصد، من صانعة الفيلم، أن هؤلاء النساء يتشابهن إلى حد مذهل، وأن كل واحدة منهن لديها علاقة معقدة مع أمها، وكلهن رغبن أن تصبح علاقاتهن ببناتهن أفضل، ولكن فى النهاية يعيد التاريخ نفسه، كما لو كان لعنة تسرى فى السلالة!
كلهن قويات، ذكيات، جميلات، وكلهن لديهن مشكلتان مزمنتان ومتوارثتان هما عدم الإحساس بالسعادة وعدم قدرة كل منهن على التواصل مع ابنتها.. أو ربما عدم قدرة كل منهن على التواصل مع أمها!
ليست هناك مشاكل كبيرة فى هذه العائلة، لا جرائم، لا حالات طلاق كارثية، لكن الحياة نفسها ثقيلة الوقع على أبنائها وبناتها. موت الأخ الأكبر ليوسف شاهين فى سن الحادية عشرة، والذى صوره فى «إسكندرية ليه؟»، مبيناً تأثيره العميق على الأسرة وعليه شخصياً، هو الحدث الجلل الذى يتخلل تاريخ العائلة، ولكن بمقاييس الحياة فهو ليس حدثاً استثنائياً، فالأطفال يموتون أيضاً، ولا تخلو سيرة عائلة من موت أبنائها، والزمن الذى حدث فيه ذلك الأمر، بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، شهد موت الملايين من الشباب الصغار.
ربما استطاع يوسف شاهين أن يعبر عن آلامه ورغباته وتناقضاته فى أفلامه، ولذلك تجاوزها، ولكن نساء العائلة، من الجدة الكبرى إلى الحفيدة الصغرى، لم يستطعن غالباً التعامل مع هذه الآلام والتناقضات والرغبات المكبوتة.
كلهن قويات، أقوى بكثير من رجال العائلة، أقوى وأذكى، ولكنهن مجبرات على العيش كبقية نساء هذه الأزمنة: يتزوجن فى سن مبكرة للغاية، من رجال يكبرونهن، بدون حب، بهدف «الستر» وضمان حياة «بورجوازية» آمنة مادياً، ويبقين محاصرات داخل دور الزوجة والأم مدى الحياة.. يلعبنه كما ينبغى، وكما تعلّمن من أمهاتهن، يربين أبناءهن وبناتهن بكثير من الحماية والتشجيع والقسوة أيضاً، ويحافظن دائماً على تلبية احتياجات المنزل ومظاهر الحياة البورجوازية، مهما ساءت الظروف الاقتصادية.
وكلهن لديهن أزمة هوية: خليط من أصول أجنبية ومصرية، وطوائف مسيحية، ثم مسيحية وإسلامية، مختلفة. لغات متعددة، إيطالى على فرنساوى على إنجليزى على عربى مكسر. هناك دائما إحساس بالعزلة، ثقافى وطبقى، يفصلهن عن الاندماج داخل المجتمع، لا يستطعن كسره. يوسف شاهين كسره، كما فعل أبوه، وربما معظم رجال العائلة. وماريان خورى ربما تكون أول امرأة فى العائلة تكسر هذا الطوق وهذه العزلة. ولكن هل انكسرت اللعنة حقاً؟ إن المشاهد الأخيرة من الفيلم توحى لنا بأن اللعنة قد تواصل مسيرتها مع الحفيدة، ربما فى بلد وقارة أخرى!
تتباين شخصيات ومصائر النساء فى «احكيلى». فى أحد المشاهد يصف شاهين أمه بأنها قوية جداً، ولكن فى الوقت نفسه هشة جداً. وهو وصف ينطبق على كل نساء الفيلم. التى تتزوج رغماً عنها مثل التى تتزوج عن حب، التى تظل ربة منزل مثل التى تخرج للعمل، التى تبقى والتى ترحل، التى عانت من الكبت وعدم التحقق الجنسى والتى حصلت على حرية اختيار الرجل المناسب واستبداله إذا لزم الأمر، كلهن يشعرن بتلك التعاسة الغامضة تسرى داخل أرواحهن، أو كما قال الفنان الشعبى خالد الذكر حسين الجسمى:
«محدش مرتاح. ازاى بندور على الفرحة واحنا بندور فى جراح. بنعيش نتمنى نروح سكة، وسكك مختلفة بتتراح».
تضعنا ماريان خورى فى فيلمها أمام أسئلة كثيرة، صعبة، وتتركها مفتوحة، أو بالأحرى مسكوت عنها، فتفتح «هويس» الأسئلة داخلنا، لنتساءل بالتبعية عن حياتنا وعائلاتنا وعلاقاتنا وهويتنا ومشاعرنا.
تلك الأسئلة فى الحقيقة تخصنا جميعاً، وتخص زمننا وأبناءنا، مهما تظاهرنا بالانتماء وتماسك الهوية وسعادة الحياة العائلية!
يبدو «احكيلى» كفيلم منزلى الصنع بسيط، من تلك النوعية التى راجت مؤخراً، ولكنه يُخفى تحت هذا السطح الهادئ أعماقاً مخيفة وعوالم بديعة من المشاعر والأفكار.