متعافون من "الوسواس القهري" يروون تفاصيل رحلة المعاناة: وعي المجتمع نصف العلاج
الإفراط فى النظافة ليس العرض الوحيد لـ«الوسواس القهرى»
حياة هادئة وسعيدة كان يعيشها محمد على «اسم مستعار»، وسط أسرته الصغيرة يملؤها النجاح منذ التحاقه بسنواته الأولى فى المدرسة، قبل أن يصيبه كابوس الوسواس القهرى وهو لم يكمل عامه الـ20 بعد، ويروى «محمد» تجربته مع مرض الوسواس، الذى أصيب به أثناء فترة الإجازة الصيفية بعد انتهائه من دراسته فى السنة الأولى بكلية طب قصر العينى عام 2009، حيث يقول «على» إنه لم يكن يعرف سبباً واضحاً لإصابته بذلك المرض النفسى، ويقول: «كنت فى الفترة دى بعانى من ضغوط نفسية بسبب إنى كنت مأجل مادة وبذاكرها فى الصيف فدخلت فى عزلة تامة عن كل حاجة من حولى».
كانت الوساوس التى هاجمت عقل وروح طالب الطب تلح عليه بأفكار غير منطقية، فيقول: «فجأة لقيت أفكار ضد المنطق وضد فطرتك ويقينك بتقهر دماغك ليل ونهار عشان تنصاع ليها، عبارة عن شاكوش بيدق على دماغك 24 ساعة فى اليوم، الوسواس كان عندى فى العقيدة يعنى الشمس هى ربنا، الشجرة هى ربنا، العمود هو ربنا»، كانت حياة قهر وجحيم عاشها «على»، إلى الحد الذى جعله يطرق رأسه فى الجدار لتهدئة تلك الأفكار التى تنهش فى روحه، فى وقت كان أهله فيه عديمى الحيلة ولم يكن بأيديهم شىء سوى البكاء فقط، ليستمر ذلك الجحيم لمدة عام ونصف ليتوجه بعدها «محمد» إلى أحد الأطباء النفسيين لتشخيص مرضه الذى أنهكه واستنزف طاقته وتفكيره وتركيزه، حيث بدأ بعدها فى الاستجابة للعلاج والامتثال للتعافى بفضل الله وكرمه كما يقول.
"محمد": "كان عندى أفكار ضد المنطق بتدق على راسى واتعالجت"
«محمد» ومن خلال تجربته مع الوسواس القهرى، يرى أن المرض من شأنه أن يدفع الشخص إلى الانتحار، لأنه مرض منهك جداً ومعذب للشخص، مشيراًَ إلى أنه كان على حافة الانهيار مرات عديدة لولا لطف الله وكرمه والعناية الإلهية التى حاوطته، بالإضافة إلى وعى أسرته بضرورة تلقى العلاج والدعم النفسى، ويضيف «أكبر عائق للمريض لتلقى العلاج المناسب فى الوقت المناسب هو الجهل المتفشى فى مجتمعاتنا وعدم الوعى بالأمراض النفسية وآثارها المترتبة على عدم معالجتها».
"مها": "كنت بتمضمض فوق العشرين مرة"
المرض ذاته أصيبت به مها نصر الله «اسم مستعار»، الطالبة بكلية الإعلام، بعد أن لاحظت أسرتها فى المنزل والمقربون منها أن تصرفاتها أخذت تتسم بالغرابة حتى وصلت ذروتها، حيث كانت تعتمد تلك الأفعال على تكرار القيام بالشىء عدة مرات، تقص «مها» معاناتها التى بدأت فى مرحلة الثانوية حيث تقول: «فى الأول بدأت أغسل إيدىّ أكتر من مرة رغم إن ممكن يكون ما أكلت ساندوتش مثلاً، وبعدها بقيت بكرر أى حاجة فى الوضوء، زى مثلاً أتمضمض فوق العشرين مرة وممكن أقعد بالساعة فى الحمام عشان بتوضأ»، مشيرة إلى أن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد وتطور إلى خوفها وتوجسها من مصافحة أى شخص دون التأكد من نظافة يديه، لتصل الوساوس بها إلى طلبها من الأشخاص غسل أيديهم أمامها قبل التعامل معهم. تضيف: «أصعب حاجة لما عقلك يكون عايزك تعمل حاجة عكس نفسك، يعنى أنا عارفة إن ده مش طبيعى إنى أعمله بس عشان أخلص من الهواجس والأفكار دى كان لازم أطاوع نفسى، وببقى فاكرة إنى كده بريح نفسى بس اللى بيحصل عكس كده والموضوع بيكبر والأفكار بتتعمق وتزداد حدة»، وتتابع: «يعنى كنت بقعد أعيد الوضوء لحد ما إيدىّ تبوش من الميه، ولما أكبر أفضل أعيد فى قراءة الفاتحة لحد ما أبدأ أنساها وأتلخبط فيها وممكن أصلى الظهر مثلاً فى نص ساعة لحد ما أرهقت جداً وبقيت مش بصلى عشان أهرب من جحيم الأفكار والوسواس ده». تقول «مها» إن البقاء دون علاج يساعد فى تفاقم المرض إلى الحد الذى من شأنه إعاقة الشخص عن القيام بمهامه الحياتية واليومية، ففى فترة الجامعة، أى ما يقرب من ثلاث سنوات على إصابتها بالوسواس القهرى، كانت الشابة العشرينية لا تستطيع الذهاب بشكل يومى إلى الجامعة بسبب قضائها وقتاً كبيراً جداً فى التأكد من نظافة ملابسها التى تنوى ارتداءها، بالإضافة إلى نظافتها الشخصية، وتقول: «وسواسى كان أكتر حاجة فى النظافة وبعدين بقى فى الإحساس بالأمان، يعنى ممكن أقعد أكتر من ربع ساعة أتأكد إن باب الشقة مقفول أو إن البوتاجاز مش شغال». لم تستسلم «مها» إلى مرضها النفسى وقاومت آثاره التى أرهقتها فوق المعتاد، واستطاعت التخرج من الجامعة بتقدير مرتفع، محاولة تجاهل مرضها، إلى أن خارت قواها: «حسيت باستحالة مواصلة الحياة بكل التصرفات اللى بعملها دى وأنا عارفة إنها متنفعش بس مش بإيدى»، لتطلب بعدها مساعدة أحد الأطباء النفسيين الذين بدأوا معها فى كورس علاج مكثف وجلسات نفسية، تقول عنها «مها» إنها أثرت فى حياتها بشكل إيجابى جداً، مشيرة إلى ضرورة عدم التوقف عن العلاج الدوائى دون العودة إلى الطبيب المعالج.
"إسماعيل": "كنت بصرخ من ألم الضهر والدكتور أكد إنى بأعانى من أعراض الوساوس"
الوسواس تجسد على هيئة آلام شديدة شعر بها إسماعيل زكى «اسم مستعار» داهمت كليتيه وظهره، قبل خمسة عشر عاماً، وتحديداً قبل أيام قليلة من بدء ماراثون الامتحانات النهائية لطلاب كلية دار العلوم، التى كان يدرس بها، حيث يقول «إسماعيل» إنه لم يستطع المذاكرة وكان كل ما يدور فى وجدانه هو الخوف والهاجس الكبير من إصابته بمرض الفشل الكلوى، الأمر الذى دفعه إلى تأجيل امتحاناته والتفرغ لزيارة عدد كبير من الأطباء الذين أكدوا جميعاً بعد خضوعه لعدد من الفحوصات والأشعة والتحاليل خلوه من أى أمراض عضوية قد تؤثر على صحته، إلا أن تلك الكلمات المطمئنة لم تزد الشاب العشرينى وقتها إلا إصراراً على عرض حالته على طبيب آخر، الذى لم يختلف تشخيصه عن سابقيه، لتهدأ بعد خمسة أشهر حدة تلك الآلام التى اعتصرت جسده دون دليل طبى على ذلك ودون تعاطى قرص دواء واحد، ظن بعدها أن آلامه الجسدية قد هدأت وبدأ فى الاستعداد للعودة إلى الدراسة مرة أخرى، إلا أنه تفاجأ بمهاجمة آلام العظام لكل مفاصله.
«حسيت بمناشير فى عضمى كانت بتخلينى أصرخ زى العيال الصغيرة، وبرضه زى ما حصل فى المرة الأولانية بعد ما رُحت لأكبر الدكاترة تبين إنى معنديش أى حاجة وفيه دكتور قالى يا بنى انت عضوياً سليم تماماً واللى عندك ده نفسى»، قالها إسماعيل، ليقوم والداه بعدها باصطحابه لعيادة أحد أشهر الأطباء النفسيين فى القاهرة، الذى شخص آلامه تلك بإصابته بمرض الوسواس القهرى، مضيفاً: «أغلب الناس اللى بتسمع كلمة وسواس بييجى فى بالهم وسواس النظافة لأنه أشهرهم، بس الحقيقة إن فيه أنواع كتيرة ومتشعبة منه وكلهم محتاجين علاج ومتابعة جدية مع طبيب متمرس».