في ذكري وفاته: الإمام المهدي.. 40 عاما بالإفتاء و18 على مقعد المشيخة
صورة أرشيفية
أول شيخ للحنفية يتولي زمام مشيخة الأزهر على مر تاريخها، وأول من جمع بين منصبي الإفتاء وشيخ الأزهر، فحظي بمباركة السلطة والعلماء، وظل في الإفتاء أربعين عاما، وفي المشيخة 18 عاما، إنه الشيخ محمد بن محمد أمين بن محمد المهدي العباسي الحنفي، إمام الأزهر الشريف، والذي تحل ذكرى وفاته اليوم 8 ديسمبر.
دار الافتاء المصرية، أصدرت تقرير لها عن الإمام المهدي، نشرته عبر موقعها الرسمي، قالت فيه: "ولد الإمام محمد المهدي العباسي بالإسكندرية عام 1243 هجريا، وكان جده الإمام محمد العباسي، علي غير ملة الإسلام، إلا أنه أسلم على يد الشيخ الإمام محمد الحفني وهو يافع، فأقبل على الدراسة الإسلامية، وحفظ القرآن الكريم وتتلمذ على الشيخ الحفني، والشيخ يوسف والشيخ علي الصعيدي العدوي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ الدردير، حتى أصبح من كبار العلماء".
أضافت الدار: "لما توفي الشيخ الإمام الشرقاوي، أجمع كبار العلماء على ترشيح الشيخ المهدي، جد الإمام محمد المهدي، لمشيخة الأزهر، لكن الوالي محمد علي باشا آثر بها الشيخ الشنواني".
وتولى الإمام المهدي، مقاليد الإفتاء في مصر وهو في الـ21 عاما، وتحكي الدار واقعة اختياره لمنصب الإفتاء فتقول: "لما ولي إبراهيم باشا نجل محمد علي باشا ولاية مصر، استدعاه إليه وأصدر أمرا بأن يتولى منصب الإفتاء في 12 أكتوبر 1848م ، وهو في نحو الحادي والعشرين من عمره، ولما يتأهل لهذا المنصب الكبير، عزل من هذا المنصب الشيخ أحمد التميمي الخليلي، وخلع على الشيخ محمد المهدي خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلسا بالقلعة حضره حسين باشا المنسترلي والشيخ الإمام مصطفى العروسي وغيرهما، فاتفقوا على إقامة أمين للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل لها صاحبها ويباشرها بنفسه، واختاروا لهذه الأمانة الشيخ خليل الرشيدي.
تابعت الدار: "نزل الشيخ محمد المهدي العباسي من القلعة في موكب كبير من العلماء والأمراء، ووفد عليه كبار القوم والعلماء للتهنئة ومدحه الشعراء، ومن الغريب أن الوالي إبراهيم باشا استدعاه لولاية هذا المنصب وهو جالس في حلقة أستاذه الشيخ السقا يتلقى عنه العلم".
وعن سر اختياره لهذا المنصب، تقول الدار: "كان الإمام محمد المهدي العباسي، يتمتع بذكاء حاد، وبتحصيل علمي وافر، فلم تكن حداثة سنه عائقا لولايته لهذا المنصب غريبة، ولم تكن موهبته العلمية هي التي رشحته لهذا المنصب في هذه السن المبكرة، وإنما الذي رشحه لذلك هو أن عارف بك، الذي تولى القضاء بمصر، كانت له صلة صداقة بالشيخ محمد أمين المهدي، والد الشيخ الإمام، فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر، قابله عارف بك، وكان إذ ذاك شيخا للإسلام، فأوصاه خيرا بذرية الشيخ المهدي، وأن يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، وحرص إبراهيم باشا على إرضاء شيخ الإسلام، فعزل المفتي وولى الشيخ محمد المهدي مكانه، ولا ينتقص هذا التصرف من مكانة الشيخ المهدي، فإن علمه وصلاحه وتقواه رفعته إلى أكبر من منصب الإفتاء، فصار شيخا للأزهر سنة 1287هجريا.
تابعت الدار: "لقد كانت ولايته منصب الإفتاء حافزا للشيخ على الانكباب على القراءة والبحث والدرس حتى بلغ مكانة الصدارة بين العلماء، وأصبح جديرا كل الجدارة بمنصب الإفتاء، وجلس للتدريس بالأزهر، فقرأ كتاب الدر المختار، وهو من أهم مصادر الفقه الحنفي، كما قرأ عدد من أمهات الكتب، وباشر أمور الفتوى عن جدارة واستحقاق".
اشتهر الإمام الشيخ محمد المهدي العباسي، بالعفة والأمانة والدقة، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم، وعدم ممالأة الحكام، فكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان شديد المحافظة على كرامته وكرامة منصبه الكبير. وبحسب الدار، فمن أروع الأمثلة على ذلك وقوفه في وجه الوالي عباس الأول، حين طمع في الاستيلاء على ثروة أسرة محمد علي التي ورثوها عن جدهم هذا، وكانت حجته في الاستيلاء على هذه الثروة أن جده محمد علي وفد إلى مصر لا يملك شيئا، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة ويجب رده إليها ووضعه بيد حاكم الأمة لينفقه في مصالحها، وهي كلمة حق يراد بها باطل، وأراد حمل المفتي على إصدار فتوى تؤيد رأيه فرفض الشيخ الفتوى بذلك وأصر على الامتناع، فهدده بالعقاب الرادع فلم يأبه له، فاستعمل معه وسائل عدة، فلم يحفل بما تعرض له من إرهاب، ثم انجلت المحنة فكان موقفه منها سببا في علو قدره، وسمو مكانته، وإعظام الولاة والحكام لشأنه.
كان للإمام المهدي العباسي، مكانة سامية، لذا منحه الباب العالي كسوة التشريف من الدرجة الأولى، وكثيرا ما كان يتدخل لدى الحكام لدفع المظالم حتى قبل ولايته لمشيخة الأزهر، ومن ذلك أن الشيخ الإمام مصطفى العروسي استصدر وهو شيخ للأزهر أمرا من الخديوي إسماعيل بنفي الشيخ حسن العدوي إلى إسنا، وكاد هذا النفي يتم لولا أنه استغاث بالشيخ المهدي، فأغاثه وذهب إلى الخديوي متشفعا وألح في الرجاء حتى صدر قرار بالعفو عن الشيخ العدوي، كذلك كان الحكام يستشيرون الشيخ الإمام المهدي في معضلات الأمور حتى غير العلمية منها، لما ألفوه فيه من غزارة العلم، وجودة الرأي، وصدق النصيحة والتقوى والصلاح.
وللشيخ مؤلفات عدة منها ا"لفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، رسالة في تحقيق ما استتر من تلفيق في الفقه الحنفي، رسالة في مسألة الحرام على مذهب الحنفية".
وعن توليه المنصب قالت الدار: "لما تم عزل الشيخ مصطفى العروسي من المشيخة تطلع إليها الشيخ العدوي، ولكن الخديوي إسماعيل ولى الشيخ محمد المهدي شيخا للأزهر مع بقائه في منصب الإفتاء، وبهذا كان أول من جمع بين المنصبين، كما كان أول حنفي تولى مشيخة الأزهر، وقد كرمه الخديوي إسماعيل فخلع عليه الخلع وأحاطه بالتجلة والاحترام".
وأضافت: "باشر الإمام الشيخ محمد المهدي، عمله بحزم وعزم وتدبر، فبدأ تنظيم شؤون الأزهر الإدارية والمالية، فأعاد لأهل الأزهر كل ما لهم من المرتبات الشهرية والسنوية، وكان حازما في إنفاق أموال الأوقاف على مستحقيها بالأزهر، مع التقيد بشروط الواقفين دون تلاعب من الحكام، ولم يزل الإمام الشيخ قائما بعمله في المشيخة والإفتاء حتى قامت الثورة العرابية فلم يتجاوب معها، فطلب عرابي من الخديوي عزله، فأجاب طلبه، وولى بدله الشيخ الإمام الإنبابي، وانفرد الشيخ المهدي العباسي بالإفتاء فقط، ولما اشتدت الثورة العرابية كتب العلماء وقواد الثورة قرارا بعزل الخديوي، وطلبوا منه توقيعه فرفض، ولعله كان يرى أن الذي يملك عزل الخديوي هو الخليفة العثماني وحده، فانحرف عنه العرابيون ووضعوه تحت الرقابة، فاحتجب في داره التي كانت واقعة على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحاشى الناس زيارته فكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه.
وبحسب الدار، فكان الشيخ الإمام المهدي العباسي هو أول من سن قانونا بتنظيم الامتحان، وقد راعى في هذا القانون الأخذ بأطراف من التقاليد القديمة، مع ما جدد فيه ومع الدقة والحزم ومراعاة الأمانة المطلقة في الامتحان.
تابعت الدار: لما عاد الخديوي إلى الحكم بعد انتهاء الثورة العرابية، عرف للشيخ الإمام حقه وقدر له وفاءه، فلما ذهب العلماء لتهنئة الخديوي، ذهب الإمام الشيخ محمد المهدي العباسي معهم فخصه من دونهم بمزيد من الترحيب والرعاية، وكان بينهم الإنبابي شيخ الأزهر، فلما رأى ذلك خشي أن يعزله الخديوي ليعيد الشيخ الإمام العباسي فاستقال بعد أيام، فأصدر الخديوي قرارا بإعادة الشيخ العباسي إلى منصب شيخ الأزهر إلى جانب بقائه في الإفتاء، وقد حفظ لنا تيمور باشا نص هذا القرار.
وأكملت الدار تقريرها: ظل الشيخ يباشر عمله في تولي مشيخة الأزهر مرة أخرى حتى سنة 1304هجريا، حيث علم الخديوي أن جماعة من الكبراء يجتمعون للسمر في بيت الإمام الشيخ المهدي العباسي، فيتكلمون في الأمور السياسية، ويظهرون سخطهم على الاحتلال البريطاني وعلى ممالأة الحكومة المصرية له، ثم قابل الإمام المهدي الخديوي في إحدى المناسبات الاعتيادية فتجهم الخديوي له، ولما هم الإمام المهدي بالانصراف قال له الخديوي: يا حضرة الأستاذ الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره، فقال له الشيخ الإمام: إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، وأرجو أن تعفوني منه. ولم يكن الخديوي يتوقع منه هذا الرد، فغضب وقال مستفهما: ومن الإفتاء أيضا؟ فقال له الإمام: نعم، ومن الإفتاء أيضا، ثم انصرف، ثم أمر الخديوي بإعادة الشيخ الإنبابي للأزهر مرة أخرى، وإقامة الشيخ محمد البنا في الإفتاء، وبقي الشيخ الإمام المهدي، بداره فترة حتى أعيد إلى الإفتاء، ثم أصيب بالفالج إلى أن توفي، وكانت مدة ولاية الشيخ المهدي العباسي لمشيخة الأزهر ثمانية عشر عاما، وولايته الإفتاء كانت أربعين عاما.