الجوع الإسرائيلى للاستيلاء على الأراضى الفلسطينية لا سقف له. سعى «نتنياهو» لضم «غور الأردن» شمال البحر الميت هو آخر طبعات النهم الاستيطانى الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية.
حين صرح «نتنياهو» فى سبتمبر الماضى بأن قراره الأول إذا فاز فى الانتخابات هو ضم «غور الأردن»، قيل إن الأمر مرتبط بالمنافسات الانتخابية لا أكثر ولا أقل. لكن التطورات اللاحقة أثبتت أن رغبة الاستيلاء على «غور الأردن» هى انعكاس لقناعة إسرائيلية يمينية أصيلة بإنهاء خيار الدولتين بالضربة القاضية، قناعة أبعد كثيراً من الفوز فى الانتخابات أو جذب أصوات المزيد من المستوطنين الذين يؤمنون بأن كامل الأراضى الفلسطينية هى أراضٍ إسرائيلية لا يجب أن ينازعهم فيها أحد.
تفسيرات «نتنياهو» نفسه لمثل هذا الطمع الاستيطانى تبرز جانباً استراتيجياً يجب وضعه فى الحسبان عند أى تفكير لمقاومة هذا القرار قبل حدوثه، إذ يرى نتنياهو أن مجمل الظروف التى تمر بها المنطقة تمثل فرصة تاريخية لإسرائيل، وإن عدم استغلالها يعنى بقاء إسرائيل فى دائرة التهديد، والفرصة هنا ذات ثلاثة أضلاع؛ أولها أن هناك إدارة أمريكية تؤيد إسرائيل بدون نقاش ومنحتها ما تريد فى القدس والمستوطنات وهضبة الجولان، وبالتالى فالمهم إقناع الإدارة الأمريكية بمنح الشرعية لأى قرار إسرائيلى لضم «غور الأردن»، وهو ما يسعى إليه «نتنياهو» مع الرئيس «ترامب» قبل أن تشتعل الحملة الانتخابية الرئاسية فى الولايات المتحدة، حتى إذا ظلت حكومته مجرد حكومة تصريف أعمال حتى الانتخابات الجديدة التى قد تعقد فى مارس المقبل.
تمتد الفرصة أيضاً حسب قناعة اليمين الإسرائيلى فى أن قدرة الطرف الفلسطينى على مقاومة مثل هذا القرار محدودة للغاية، ولن تزيد على بيانات الرفض والشجب وعدم الاعتراف، لكن فى الواقع حسب أمانيهم أن تمتد السيادة الإسرائيلية على «غور الأردن» إلى الأبد، وتصبح أمراً مفروغاً منه ما دامت الإدارة الأمريكية سوف تعترف بشرعية القرار الإسرائيلى كما فعلت فى حالتى القدس وهضبة الجولان. وبذلك ستكون الحدود الشرقية لإسرائيل قد تحددت تماماً، وبذلك أيضاً يتسع النطاق العرضى لإسرائيل ما بين البحر الميت إلى البحر المتوسط. وفى كل الأحوال ستكون إسرائيل أكثر أمناً، كما يتم الترويج له، والأهم أن يختفى أى احتمال لتواصل جغرافى فلسطينى أردنى، أو أن يتحول ما يتبقى للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى قطاع غزة آخر يشكل تهديداً ومصدر إزعاج دائماً.
الرؤية الإسرائيلية على هذا النحو ليست وليدة الانتخابات التى يسعى كل مرشح فيها لطرح وعود لا حدود لها لغرض جذب الناخبين، بل هى جزء من المخطط الإسرائيلى المكشوف والمعروف للكل، وخلاصته منع الدولة الفلسطينية وإجهاض حل الدولتين، والسيطرة والسيادة على أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية، ومنح الفلسطينيين المقيمين فى بلدات وقرى متباعدة حقوقاً بلدية محدودة لا ترقى أبداً إلى الحق فى إقامة دولة مستقلة.
أهمية «غور الأردن» على النحو الذى يروج له «نتنياهو» تعنى تحديات كبرى للفلسطينيين وتهديدات للأردن ترقى إلى الطابع الوجودى. السلطة الفلسطينية بادرت منذ سبتمبر الماضى بالتهديد بإلغاء كل الاتفاقيات المستندة إلى عملية أوسلو، فالغور بالنسبة لمشروع الدولة الفلسطينية المنتظرة يعنى الكثير على صعيد الجغرافيا والموارد الطبيعية لاسيما المياه والأرض الخصبة، إذ يمثل ثلث مساحة الضفة الغربية والمفترض أنها الأرض التى ستقام عليها الدولة الفلسطينية المنتظرة، وإذ بسطت إسرائيل سيادتها على هذا الثلث من أراضى الضفة التى لا تزيد على 22 فى المائة من مجمل أراضى فلسطين للعام 1948، وبالتالى فلن يتبقى للفلسطينيين سوى أقل من 14 فى المائة من الأراضى الفلسطينية، ما يجعل قيام دولة مسألة شبه مستحيلة، لاسيما أن هناك أكثر من خمسمائة مستوطنة فى عموم الضفة الغربية يسكن فيها ما يقرب من مليون مستوطن، بعضها يوصف بالقانونى حسب المعايير الإسرائيلية، وبعضها عشوائى ولكنه سيحصل على الصفة القانونية تلقائياً إذا مدت إسرائيل سيادتها من طرف واحد على تلك المستوطنات بنوعيها، ما يعنى خصماً آخر من الأراضى التى قد تتبقى للفلسطينيين.
وتزداد معاناة الفلسطينيين وفق هذا التطور حال حدوثه نظراً لأن أراضى «غور الأردن» تتمتع بخصوبة عالية وتجود فيها زراعة العديد من المحاصيل والنباتات وتتوافر فيها المياه طوال العام، ما يجعل الزراعة المنظمة أمراً يسيراً ومربحاً فى الآن نفسه، لكنه سيصب فى جيوب المستوطنين وليس الفلسطينيين.
من جانب آخر، فإن إلحاق «غور الأردن» بالسيادة الإسرائيلية، سيولد نتائج خطيرة على المملكة الأردنية، فمن جانب لن يكون هناك تواصل جغرافى أردنى فلسطينى، وستصبح كل حدود الأردن الغربية مع الكيان الإسرائيلى. ومن جانب آخر فإن إجهاض خيار الدولتين من شأنه أن يعيد مرة أخرى فكرة أن الأردن هو الوطن الفلسطينى البديل، وليس أى شىء آخر، وهو ما يمثل تهديداً وجودياً للمملكة الأردنية، كما سيثير جدلاً بشأن الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية فى القدس. والمؤكد أن هذه التداعيات الخطيرة كانت حاضرة بقوة حين قرر الأردن الأول من ديسمبر الحالى تنفيذ تدريب عسكرى بمسمى «سيوف الكرامة»، بالقرب من الحدود الأردنية الإسرائيلية، حضره الملك عبدالله وكبار رجال الجيش الأردنى والسياسيين الأردنيين، وقامت فكرته على أساس مواجهة غزو محتمل للمملكة من جهة الغرب، أى من جهة إسرائيل، الأمر الذى وصفه المحللون الإسرائيليون بأنه رسالة قوية على ساسة بلادهم أن يضعوها فى حسبانهم عند التفكير فى مد السيادة الإسرائيلية على «غور الأردن»، وإغلاق كل أبواب المفاوضات مع الفلسطينيين.
وكان الملك عبدالله قد حذر مرات عديدة من الإقدام الإسرائيلى على ضم «غور الأردن»، ولمح إلى أن قراراً كهذا سيكون له تداعيات سلبية مباشرة على معاهدة وادى عربية وعلى مجمل العلاقات الأردنية الإسرائيلية، وأيضاً الإسرائيلية مع مصر.
جميع الملابسات والتداعيات المحتملة لقرارات النهم الاستيطانى الإسرائيلى على النحو المُشار إليه تعد مدخلاً مباشراً إلى توتر إقليمى غير مسبوق، تتحمل الإدارة الأمريكية نسبة كبيرة منه برعايتها لكل المشروعات الاستيطانية الإسرائيلية، وبضربها عرض الحائط القانون الدولى وتجاهلها القيام بدور إيجابى وشبه محايد وصولاً إلى تسوية تاريخية تنهى الصراع العربى الإسرائيلى، وتثبت حالة استقرار إقليمى مرغوب من الجميع. كما يتحمل الفلسطينيون جزءاً من المسئولية يمكن معالجته بسرعة إنهاء الانقسام والتوافق على استراتيجية مقاومة فعالة، بما يقنع اليمين الإسرائيلى بأن الثمن الذى سيدفعونه هذه المرة سيكون غالياً جداً.