القانون الجنائى قد يشكل إحدى الأدوات والوسائل الداعمة للسياسة الخارجية للدولة، الأمر الذى يبدو جلياً من خلال تجريم السلوكيات الماسة بالعلاقات الدولية، مع مراعاة خصوصيات العلاقة التى تربط الدولة بالدول الأخرى، سواء تمثلت هذه الخصوصية فى اتجاه إيجابى من خلال علاقات التحالف والصداقة أو كانت فى اتجاه مغاير فى حالات العداء أو التوتر. بيان ذلك أن معظم التشريعات الجنائية العربية تجرم العيب فى حق ملك أو رئيس دولة أجنبية (المادة 181 من قانون العقوبات المصرى). كذلك، يجرم المشرع الجنائى العيب فى حق ممثل لدولة أجنبية معتمد بسبب أمور تتعلق بأداء وظيفته (المادة 182 من قانون العقوبات). ولا شك أن العلاقات السياسية مع الدولة الأجنبية التى يقع العيب فى حق ملكها أو رئيسها أو ممثلها الدبلوماسى تلعب دوراً فاصلاً فى تحريك الدعوى الجنائية من عدمه. ولذلك، تنص المادة الثامنة من قانون الإجراءات الجنائية على أنه «لا يجوز رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ إجراءات فيها إلا بناء على طلب كتابى من وزير العدل فى الجرائم المنصوص عليها فى المادتين 181، 182 من قانون العقوبات..» وفى هذا الصدد، يروى أن أحد المسئولين الكبار فى عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك أبلغ الصحفى الكبير الراحل عن دنيانا مؤخراً إبراهيم سعدة باختياره للسفر رفقة وفد الرئاسة الزائر إلى إحدى الدول العربية، وأن الصحفى الكبير ركب الطائرة، دون علمه بوجهتها، وفوجئ بعد وصوله بأن الطائرة هبطت فى دولة ليبيا الشقيقة. وعندما رأى القذافى إبراهيم سعدة قال له إنه «لولا وجوده فى وفد مصر الرسمى كان بقاله تصرف آخر». وتعود الأزمة بين الكاتب الصحفى الراحل إبراهيم سعدة وبين معمر القذافى إلى فترة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقتما كان إبراهيم سعدة يشغل رئاسة تحرير جريدة «أخبار اليوم»، وذلك بسبب سخرية الصحيفة الدائمة وسخرية إبراهيم سعدة شخصياً فى مقالاته من القذافى. ورغم أن هذه الكتابات يمكن أن تشكل عيباً فى حق الرئيس الليبى الراحل، وتشكل بالتالى جريمة معاقباً عليها قانوناً، إلا أنه لم يتم تحريك الدعوى الجنائية ضده، وذلك بسبب تناغم هذه الكتابات الصحفية مع توجهات الحكومة المصرية القائمة آنذاك، حيث اتسمت العلاقات السياسية المصرية الليبية فى ذلك الوقت بالتوتر الشديد بين البلدين الشقيقين.
من ناحية أخرى، تنص المادة الخامسة والثمانون (أ) الفقرة الثانية من قانون العقوبات المصرى على أنه «يجوز بقرار من رئيس الجمهورية أن تبسط أحكام هذا الباب كلها أو بعضها على الأفعال المنصوص عليها فيه حين ترتكب ضد دولة شريكة أو حليفة أو صديقة». وكما هو واضح من هذا النص، فإن للدولة أن تعتبر الجرائم الماسة بأمن دولة أجنبية شريكة أو حليفة أو صديقة كما لو كانت قد ارتُكبت فى حق الدولة المصرية نفسها، وأن تبسط عليها أحكام قانون العقوبات، وبحيث يتسنى ملاحقة مرتكبيها ومحاكمتهم أمام القضاء المصرى. ويشكل ذلك، دون شك، مظهراً آخر من مظاهر استخدام القانون الجنائى كإحدى الأدوات الداعمة للسياسة الخارجية.
ومن ناحية ثالثة، يعاقب المشرع الجنائى كل من يقوم بغير إذن الحكومة بجمع الجند أو يقوم بعمل عدائى آخر ضد دولة أجنبية من شأنه تعريض الدولة المصرية لخطر الحرب أو قطع العلاقات الدبلوماسية (المادة 77 ومن قانون العقوبات). بل إن بعض التشريعات الجنائية العربية تتوسع فى التجريم، فلا تشترط أن يكون العمل العدائى من شأنه تعريض الدولة لخطر الحرب أو قطع العلاقات الدبلوماسية، وإنما تكتفى بأن يكون العمل من شأنه فقط مجرد الإساءة إلى العلاقات السياسية مع الدولة الأجنبية (المادة 166 من قانون العقوبات الاتحادى لدولة الإمارات العربية المتحدة).
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن رجال القوات الأجنبية الذين يرابطون فى إقليم الدولة بترخيص منها يتمتعون بحصانة تتسع للأفعال التى يرتكبونها أثناء أداء أعمالهم أو فى داخل المناطق المخصصة لهم. وعلة هذه الحصانة كون القوة الحربية تمثل سيادة الدولة الأجنبية التى تتبعها، بالإضافة إلى ما يقتضيه النظام العسكرى من خضوع رجال القوات الحربية لرؤسائهم وحدهم أثناء فترة العمل أو فى المناطق المخصصة لهم.
إن القانون كتعبير عن الإرادة العامة للأمة ينبغى أن يكون متناغماً ومتسقاً ومنسجماً مع التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، فلا يكون بينهما تنافر أو تعارض أو تناقض. وانطلاقاً من ذلك، يجب أن تكون القوانين جميعهاً، وليس فقط القانون الجنائى، فى خدمة السياسة الداخلية والخارجية للدولة. والله من وراء القصد.