أطلق عبدالناصر مشروع مديرية التحرير «الزراعى» عام 1954، فانتقلت إليه مئات الآلاف من الأسر، من فقراء محافظات مصر، الذين حرموا من أراضى الإصلاح الزراعى، لتنشأ فيها طوعاً مجتمعات عمرانية مستدامة، أصبحت ريفية فضفاضة، وموازية للريف القديم المكتظ فى الوادى والدلتا، وحققت الأمن الغذائى فى حقبة توالت على مصر فيها الحروب من يونيو 1967، مروراً بحرب الاستنزاف حتى انتصارات أكتوبر 1973.
وبديلاً عن النزوح الجماعى للقرويين صوب المدن الكبرى، مثلما حدث خلال العقدين الماضيين، نشأت تجمعات سكانية خضراء، على ضفاف الترع والقنوات التى تخللت أكثر من 4 ملايين فدان، حولتها الفؤوس والمناجل والأظافر إلى حقول منتجة، وحظائر ماشية وأغنام ودواجن، حفظت البلاد والعباد من تبعات الفقر والعوز.
كان مشروع مديرية التحرير، ولا يزال، شاهداً على أهمية الزراعة فى تكوين لُحمة مجتمعية مستورة، وظل طوال 60 عاماً المورد الأكثر ثراء لخضراوات وفواكه، عجزت عن إنتاجها أراضى الوادى والدلتا التى خُصِّصَت آنذاك للقطن، والقمح، والأرز، والذرة، والبرسيم، والفول البلدى.
وبالتوازى مع الاستصلاح والزراعة، تنبه عبدالناصر مبكراً، إلى أهمية البروتين كوجبة غذائية أساسية للإنسان المصرى، فبدرت إلى ذهنه فكرة إطلاق «مشروع ناصر لتربية الحيوانات والدواجن»، فاستدعى رجلين من أهل العلم والخبرة، عام 1964، أولهما طبيب بيطرى، هو الدكتور أمين زاهر أستاذ الدواجن بكلية الطب البيطرى جامعة القاهرة آنذاك، وثانيهما زراعى وهو الدكتور محمد توفيق رجب الذى كان أيضاً أستاذاً بنفس الجامعة فى كلية الزراعة، فأسند للأول مهمة إنشاء المؤسسة العامة للدواجن، فيما عهد إلى الثانى بإنشاء المؤسسة العامة للحوم والألبان.
ظلت المؤسستان منذ تأسيسهما ترتفعان على مؤشر التنامى، وكانتا حلماً وأملاً وقتذاك لكل خريجى الزراعة، والطب البيطرى للأعمال التخصصية الفنية، كما تسابق عليهما خريجو التجارة والآداب وغيرهما من الكليات للالتحاق بوظيفة إدارية، وذلك بنهم يزيد على تهافت خريجى العقود الثلاثة الماضية على وظائف البترول، والضرائب، والبنوك. لم تكن مصر تعرف فى تلك الأيام سوى البقرة المنقوشة على جدران المعابد المصرية القديمة، والجاموس المصرى، و«الفرخة الفيومى»، وهى الدجاجة المصرية «أُمّاً عن جدود» تصل إلى العصر الفرعونى، ومع ذلك أهملتها مصر، رغم وجود مشروع قائم حتى الآن فى محافظة الفيوم، ينتج منها نحو 20 مليون دجاجة سنوياً، وسرقت أمريكا جينها لتنتجها هناك، ويباع الكتكوت منها بـ5 دولارات.
استشرف «عبدالناصر» مبكراً مخاطر الزيادة السكانية المحتملة، كونه يعرف طبيعة المجتمع الفلاحى الذى ولِد وعاش فيه، فخِلفة «دستة» الأبناء ضرورة للعمل فى «الغيط»، ولتأسيس عزوة «البيت»، فنقل صناعة البروتين من دجاجة لا تبلغ وزن الكيلوجرام قبل ستة أشهر، إلى بديلة لها تزن ضعفها فى 33 يوماً، باستثمار خبرة العالم فى استنباط السلالات والتغذية ومكافحة الأوبئة.
لم يكن الفلاح يملك حيلة لتربية ماشيته آنذاك، سوى الطريقة التقليدية فى التغذية بالبرسيم الأخضر، وتخزينه بالتجفيف «دريساً»، ثم خلطه بتبن القمح، ليصل بوزن العِجل إلى 200 كيلوجرام فى عامين أو أكثر، وذلك قبل أن يلجأ «عبدالناصر» إلى العلم والعلماء، فاستورد علوم التحسين الوراثى لسلالات المواشى المصرية، ثم استيراد سلالات أمهات الدواجن الأجنبية، لتنجح «العامة للدواجن» فى تأسيس منظومة متكاملة لصناعة الدواجن، بداية من التفريخ، ثم التسمين، واستيراد الأمصال واللقاحات، ثم الذبح فى مجازرها، ولتنجح «العامة للحوم والألبان» فى تحقيق المستهدف منها.
وعلى هامش المؤسستين الحكوميتين الوحيدتين فى مصر، آنذاك، بدأت التجارة فى توزيع الكتاكيت، لتأسيس قاعدة شعبية واسعة من المربين الأهليين، وبعض المستثمرين لخوض تجربة إنشاء مزارع الدواجن، والماشية، ولم يكن هناك مصدر لكتكوت أو علف إلا مفرخات «العامة للدواجن» ومصانع أعلافها.
بدأت الحكومة آنذاك، بتوجيه رئاسى، فى تمويل المربين والمزارعين بالأعلاف، وكان سعر طن الذرة من الحكومة للمربين 60 جنيهاً، مقابل توجيه 10% من إنتاج مزارع الدواجن إلى الجمعيات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين، بسعر التكلفة فقط، وهو ما ينشده حالياً وزير الزراعة الجديد الذى عقد أخيراً اجتماعات مع الجمعيات التعاونية الزراعية، محاولاً إحياء هذه المنظومة، وذلك بمنح مربى الماشية «الردة»، مقابل بيعهم عجول التسمين إلى وزارة التموين، بسعر يضمن الربحية للمربى، والرحمة للمستهلك. واصلت المؤسستان الحكوميتان تقدمهما فى إحكام منظومة الأمن الغذائى القومى للمصريين، حتى خلال حكم الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، ولم يطرأ عليهما طارئ حتى تغير مسمى «العامة للدواجن»، إلى «المتحدة للدواجن»، التى تعرضت بعد ذلك إلى مخطط تصفية القطاع العام على أيدى حكومة عاطف عبيد، رئيس الوزراء الأسبق، وذلك بعد تقسيم الشركة إلى مقرَّيْها فى مدينتى «السلام والنوبارية»، ومحطة حلوان لإنتاج بيض المائدة.
وحتى الآن يحار كل من له علاقة بصناعة البروتين، كيف نجحت الحكومة المصرية فى عقود مضت، فى إنشاء هذه الكيانات التى نشرت مزارعها، ومجازرها، ومفرخاتها، ومصانع أعلافها فى جميع محافظات مصر، بدلاً من استيراد الدواجن واللحوم مجمدة، وكيف كانت المنظومة الحكومية معيناً للخبرات التى ساعدت القطاع الخاص بعد ذلك على النهوض فوق أنقاضها، حيث اشترت مواقعها شركات مصرية عملاقة، بعضها كان «مساهمة»، وبعض منها كان عائلياً، لتظل بقاياها عرضة للنهب والسرقة و«التخريد» العمدى.
وبعد استعراض تاريخ صناعة بروتين الفقراء فى مصر، وبالذات منظومة صناعة الدواجن، التى يعمل بها حالياً أكثر من خمسة ملايين عامل، وتحتضن استثمارات تقدر بنحو 70 مليار جنيه، وتنتج كل طلعة شمس نحو 3.2 مليون دجاجة طازجة، وتكفينا ذاتياً من بيض المائدة، يحدونا الأمل فى استمرار رعاية حكومية لماكيناتها وتروسها الوطنية.
والحماية لن تتحقق إلا بمنع إغراق المستورَد، وتفعيل توجيهات الرئيس السيسى، وقرار مجلس الوزراء المبنى على هذه التوجيهات، بمنع استيراد الدواجن إلا من خلال لجنة مخصصة للنظر فى أهمية الاستيراد من عدمه، إضافة إلى الالتزام بقرارات إعفاء صناعة الأعلاف من عبء «القيمة المضافة»، لتستمر الحكومة قاطرة للأمن الغذائى، وحامية للأمن المجتمعى، ليتحقق شعار «تحيا مصر».