"قدسية الحياة": التصدي لدعاوى التكفير وقتل المرتد.. ونشر "لا إكراه في الدين"
المنتحر يرتكب كبيرة من الكبائر
كانت الفتاوى فى الأمور الشخصية إحدى أبرز أدوات السيطرة لجماعات الإسلام السياسى على عقول المواطنين ومظهرهم، فقد كان التكفير والقتل أدوات للردع والتخويف، واللحية والنقاب أدوات لإظهار نفوذهم وسطوتهم ودليل قوة وجودهم، الأمر الذى استدعى تدخلاً حاسماً للمؤسسات الدينية، لمواجهة المزايدات والاستغلال الدينى للمجتمعات ومحاولات السيطرة عليهم بمصطلحات دينية فضفاضة، فالتكفير والردة والتفسيق أدوات مهمة للجماعات لتقليص الحريات الشخصية للمواطنين.
فقد صنعت الجماعات هالة كبرى حول قتل المرتد واعتبرتها أصلاً من أصول الدين، ومن القواعد الغائبة والشريعة غير المطبقة، رغم أن قوله تعالى «لا إكراه فى الدين»، يعد إحدى القواعد الرئيسية فى الدين الإسلامى، فإن الجماعات حولت مسألة الردة إلى سلاح فى يدها ترمى به كل من يخالفها، وقد نشرت المؤسسات الدينية العديد من الأبحاث خلال السنوات الأخيرة حول الردة وكيف أنها ليست حداً، لتصويب الخطأ الذى نشرته الجماعات حول الأمر.
وفى تقرير لدار الإفتاء، أكدت أن رسول الله لم يقتل عبدالله بن أُبى، حينما ارتد وقد قال: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، كذلك لم يقتل ذا الخويصرة التميمى، وقد قال له: «اعدل»، ولم يقتل من قال له: «يزعمون أنك تنهى عن الغى وتستخلى به»، ولم يقتل النبى القائل له: «إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله»، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص، وهى ألفاظ يرتد بها قائلها قطعاً، لأنها اتهام للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بما فى ذلك من تكذيب له بأمانته وعدله. وأما فى عهد الخلفاء، وبالتحديد فى زمن الفاروق عمر رضى الله عنه، فقد روى أن أنساً، رضى الله عنه، عاد من «تستر»، فقدم على عمر، رضى الله عنه، فسأله: «ما فعل الرهط الستة من بكر بن وائل الذين ارتدّوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال: فأخذت به فى حديث آخر ليشغله عنهم، قال: ما فعل الرهط الستة الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين من بكر بن وائل؟ قال: يا أمير المؤمنين قتلوا فى المعركة، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت: يا أمير المؤمنين وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم، كنت أعرض عليهم أن يدخلوا فى الإسلام، فإن أبوا استودعتهم السجن»، فلم ير عمر قتلهم، رغم أنهم ارتدّوا وقاتلوا المسلمين، لكنه رأى استتابتهم، وإلا سجنهم».
فتوى لـ"شلتوت": الكفر ليس مبيحاً للدم لكن المبيح هو محاربة المسلمين ومحاولة فتنتهم عن دينهم
وقال الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الراحل، فى إحدى الفتاوى له التى نشرتها دار الإفتاء عبر موقعها، إن قتل المرتد ليس حداً، فيقول: «وقد يتغير وجه النظر فى المسألة، إذ لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم فى كثير من الآيات تأبى الإكراه فى الدين»
ويقول الدكتور محمد وسام، أمين الفتوى بدار الإفتاء، لـ«الوطن» إن قضية قتل المرتد غير مطبقة فى الواقع العملى المعيش، ووجودها فى المصادر التشريعية لم يكن عقوبة ضد حرية الفكر والعقيدة، وإنما تخضع للقانون الإدارى، وهى مسألة ليست مرتبطة بحرية العقيدة والفكر، ولا مرتبطة بالاضطهاد، فالنصوص التى شددت فى ذلك، لم تعن الخروج من الإسلام بقدر ما عنت الخروج على الإسلام الذى يعد جرماً ضد النظام العام فى الدولة، كما أنه خروج على أحكام الدين الذى تعتنقه الأمة، ويعتبر حينذاك مرادفاً لجريمة الخيانة العظمى التى تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين.
"الطيب": لا تكفير إلا بحكم القاضى
وكان «التكفير» إحدى أهم الركائز التى بنت عليها جماعات الإسلام السياسى كياناتها ومبررات وجودها، واستغلته أيما استغلال، فكفرت تلك الجماعات من يخالفها وتوسعت لتكفير من لا يلتزم بمظاهرها الدينية، فتارك الصلاة كافر ورافض اللحية فاسق، ورافض النقاب منافق، وهو ما دعا المؤسسات الدينية لمواجهة تلك الشبهات التى خلفتها تلك الجماعات، فأوضح الأزهر والإفتاء أن لا تكفير إلا بحكم قضائى، وجاء ذلك على لسان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، الذى أكد أنه ليس من سلطة أحد أياً كان تكفير الناس إلا بحكم القاضى وبعد تثبته من الأمر.
فيما أوضح الدكتور فتحى عبدالرازق، رئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، أن كبار علماء أهل السنة والجماعة ومؤسسى الأشاعرة والماتريدية، وكبار العلماء لا يكفرون مسلماً بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها، فقد قال «أبوحنيفة» فى الفقه الأكبر: ولا نكفر مسلماً بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه اسم الإيمان، ونسميه مؤمناً حقيقة، وما جاء عن الإمام الطحاوى فى العقيدة الطحاوية وجماهير الأشاعرة عليه مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»، فالتكفير حكم شرعى، ولا يجوز الإقدام عليه إلا بدلالة الشريعة، فتكفير من لا يستحق التكفير هو من البغى والظلم ومجاوزة الحد.
على صعيد آخر، كانت الحريات الشخصية للمرأة أحد أهم مجالات المواجهة بين المؤسسات والجماعات، فقد سعت الأخيرة لفرض النقاب على المرأة، كمظهر لهم وليس للدين، يوضح نفوذهم على عقول سيدات المجتمع المصرى والعربى، وقد أكدت المؤسسات الدينية فى أبحاث وفتاوى وخطب ودروس عدة أن الزى الشرعى المطلوب من المرأة المسلمة هو أى زى لا يصف ولا يشف ويستر الجسم كله ما عدا الوجه والكفين، ولا مانع كذلك أن تلبس المرأة الملابس الملونة بشرط ألا تكون لافتة للنظر أو تثير الفتنة، فإذا تحققت هذه الشروط على أى زى جاز للمرأة المسلمة أن ترتديه وتخرج به، وأن نقاب المرأة الذى تغطى به وجهها وقفازيها اللذين تغطى بهما كفيها، فجمهور الأمة أجمع على أن ذلك ليس واجباً وأنه يجوز لها أن تكشف وجهها وكفيها أخذاً من قول الله تعالى: «ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها».
وقالت وفاء عبدالسلام، إحدى واعظات الأوقاف لـ«الوطن»، إن النقاب ليس فرضاً فى الدين، فهو كما قال شيخ الأزهر ليس فرضاً فى الدين ولا سنة ولا مندوباً، وليس مستحباً ولا ممنوعاً، فمن فعله ليس له ثواب ومن لم يفعله ليس عليه سيئة، وهو من باب الزينة فقط، لكن الحجاب وهو غطاء شعر الرأس، أمر واجب على كل نساء المسلمين. فيما ظلت مسألة الانتحار أحد مجالات مزايدة المتشددين والمُكفرين، حيث نشرت حولها أحكاماً لا تتعلق بالشرع، بل برؤيتها الشاذة للدين، فنشرت بين الناس أن المنتحر كافر، والانتحار الذى يعد خطأ كاملاً بلا شك، وأمر بلا أى شرعية، إلا أن تكفير المنتحر أمر ليس فيه أى شرعية كذلك، فالمنتحر بحسب توضيح المؤسسات الدينية مرتكب كبيرة ولكن ليس كافراً.
"الوردانى": المُنتحر يصلَّى عليه ويدفن فى مقابر المسلمين ولا يخرج من الملة
وأكد الدكتور عمرو الوردانى، أمين الفتوى بدار الإفتاء لـ«الوطن»، أن الانتحار حرام شرعاً، وقد ارتكب فاعله كبيرة من عظائم الذنوب، إلا أنه لا يخرج بذلك على الملة، بل يظل على إسلامه، ويصلى عليه ويغسل ويكفن ويدفن فى مقابر المسلمين.
وأكد أن حماية النفس وعدم إزهاق الروح، أو حتى إتلاف عضو من أعضاء الجسد أو إفساده، هو مطلب سماوى، فحرم الله تعالى كل ما من شأنه أن يهلك الإنسان أو يلحق به ضرراً، ويجب المحافظة على النفس كمقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، فقال المولى عز وجل: «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً»، فالانتحار، إخلال بمبدأ الشريعة الإسلامية بحفظ الكليات الخمس، وهى: الدين، النفس، العقل، النسب والمال، وهذه كليات متفق عليها بين الأديان السماوية وأصحاب العقول.
"عطية": عقابه فى الآخرة أعظم
وأكد الدكتور مبروك عطية، عميد كلية الدراسات الإسلامية بالأزهر لـ«الوطن»، أن المنتحر ليس بكافر فالكافر لا يصلى عليه بينما المنتحر يصلى عليه، فتلك جريمة نكراء نتيجة لضعف الجوانب الدينية لدى الشباب إلا أن ذلك لا يخرج فاعلها من الملة، فالانتحار ليس باباً للهروب من الأزمات، لأنه سيعقبه حساب شديد سيكون أكبر وأعظم وطأة من أى شىء قد يعانيه الإنسان فى حياته الدنيا.