من ذا الذى لم تروعه «حفلات الدم» فى ناهيا وكرداسة ومطاى، وهو يرى شباباً فى عمر الزهور يرقص حول رفات الضحايا، ويتبادل أشلاءها فى زهو مريض، على طريقة كتائب نصرة الإسلام وداعش فى سوريا؟ ومن ذا الذى لم ينفجر فى داخله بكاء مكتوم على شباب مغيب ضاع من قدمه الطريق، وزاغ عن عينيه الهدف؟! «شباب جوف، محشوة رؤوسهم بالخوف» كما قال «إليوت» فى قصيدته ذائعة الشهرة «الأرض اليباب»!، شباب كالفراشات الملونة، يندفع بفطرة الفراش، لا بوعى البشر، نحو النار، ضاقت عنده -حتى انكمشت- مساحة العقل، واتسعت رقعة الخرافة. ترى من أى ينابيع العنف ارتوت ثقافة هؤلاء الشباب؟ ومن أى حقول الشوك نمت عقولهم وضمائرهم؟!
لقد أعيانا البحث عن جذور الإرهاب، وتقصى أسباب العنف والتطرف. واتهمنا البطالة والفقر تارة والتآمر الخارجى تارة أخرى، والتوظيف السياسى الخاطئ للدين تارة ثالثة. وأحياناً لم نكتف بسبب واحد واعتبرنا العنف مشكلة مركبة لا يصح أن تُرد إلى سبب وحيد، إنما تُرد إلى هذه الأسباب جميعها اقتصادية كانت أو ثقافية أو سياسية. لهذا السبب أيضاً لا ينبغى أن نفكر فقط فى جبهة وحيدة للمواجهة، بل فى برنامج قومى يرتفع إلى مستوى الخطر الذى يتهدد التاريخ والمستقبل والهوية معاً، ولا يكتفى بالمواجهة الأمنية، واختزال المشكلة فى حفنة من الشباب الشارد تتكفل أجهزة الأمن بإعادتهم إلى جادة الاعتدال وتتدبر أمر توبتهم أو تأديبهم! وربما لم ندرك حتى الآن أننا نواجه «حالة» فكرية وعقلية وثقافية تجتاح المجتمع أخطر ما فيها أنها تحرث الأرض لثقافة شعبية جديدة أخذت تفرض نفوذها فى الريف وحواف المدن والأحياء العشوائية، وتنوعت مظاهرها فى طقوس الأفراح والمآتم وفى أزياء الناس وأذواقهم ومفردات حديثهم. وأغلب الظن أن تلك الطقوس والأزياء والأذواق مظاهر لثقافة بدوية «وافدة» حتى وإن تدثرت بمسوح الدين.
وباستثناء المقاومة الباسلة لبعض رموز التنوير والثقافة، فإن المواجهة الفكرية والثقافية الرسمية لا تعدو أن تكون تكريساً لمناخ ثقافى أحادى الطابع، هو فى الواقع ظل باهت لثقافة التطرف والعنف. ويهمنا من أمر هذه المواجهة ما تقوم به أجهزة قومية للشباب والثقافة والتوجيه الدينى. وتنطلق هذه الأجهزة من فرضية واحدة وهى أن سبب العنف هو الثقافة الدينية الناقصة، ومشكلة شبابنا هى الفهم الخاطئ للدين. ولهذا راحت تضع برامجها وتحشد دعاتها وتُسيِّر قوافلها. ولكن بدلاً من أن تقدم هذه البرامج ثقافة بديلة لثقافة الإرهاب والعنف، ثقافة يتجلى فيها تنوع التراث الوطنى، ويطل منها وجه الإسلام المشرق مبشراً لا منفراً، كانت هذه الثقافة مجرد تنويعات جديدة لأنغام قديمة وقراءة مختلفة لقضايا أُغلقت ملفاتها من زمن طويل. ونحن لا نتهم هذه الأجهزة بأنها -حاشا لله- تتعمد ترويج ثقافة غير وطنية. كلا فتلك الأجهزة كانت مدفوعة بالنوايا الحسنة، ولم تقصد قط أن تقدم هذه الثقافة عمداً، ولم يخطر لها أنها تؤجج جذوة العنف، وتحرث الأرض لحشائشه السامة.
وليأذن لى كل من يهمه أمر الثقافة وأمر الشباب معاً أن أعرض لثلاثة نماذج لهذه الثقافة البديلة لثقافة العنف عشتها فى ثلاث مناسبات مختلفة.
1- قبل ثورة 25 يناير كنت ضيفاً -متقطع الزيارة- على ملتقى سنوى يحتشد فيه الشباب غير المتطرف أفواجاً تحت عنوان «الملتقى الثقافى الإسلامى». وتقوم فكرة الملتقى -الذى يخضع لإشراف الأوقاف- على «تحصين» الشباب ضد الفكر المتطرف، وتصحيح مفاهيمه الدينية الخاطئة، وإعداده لمنازلة الشباب المتطرف فكرياً فى الجامعات! ويقوم على أمر الملتقى موجهون دينيون أجلاء من دعاة الأوقاف وأئمة الأزهر الشريف، دعيت للالتقاء ببعضهم فى حوار مفتوح أتعرف فيه على فكرهم، ونتبادل الرأى حول البرنامج الأنسب لتثقيف شباب الملتقى، لكنى -فى نهاية الحوار- وجدت نفسى كطائر وحيد أدافع عن إسلاميات طه حسين وعبقريات العقاد وأدفع سوء الظن بالحكيم وأحمد أمين. حتى الأفغانى ومحمد عبده لم يسلما مما يجرح إيمانهما الكامل. كان الجميع ممن فارقوا المتون الصفراء -هكذا قال أحدهم- تلاميذ نجباء فى مدرسة «رينان» وغيره من المستشرقين الذين ناصبوا الإسلام العداء. أما «نوبل» نجيب محفوظ فهى مكافأة يهودية وليست اعترافاً وتكريماً لعبقرية روائية عربية. سألت محاورى: ما آخر ما قرأت لنجيب محفوظ؟ قال بثقة مستفزة: وهل تظن أننى قرأت له أصلاً؟!
2- وفى مناسبة ثانية ترأست لجنة جامعية لاختيار الطالب المثالى والطالبة المثالية من بين مجموعة مختارة على أساس معايير محددة من شباب الجامعات، من بين هذه المعايير، فضلاً عن التفوق الدراسى، الثقافة العامة.
كانت المجموعة تتكون من ثلاثين طالباً وطالبة، اعتذر نصفهم عن عدم قراءة الشعر والقصة لارتفاع ثمن الكتاب! أما المسرح والموسيقى والغناء والنحت والفنون التشكيلية فقد تحفظ عليها بعضهم لأسباب دينية. وعندما سُئل أحدهم عن «الباليه» قال: عرى وتهتك!
ومن بين الطلاب الثلاثين أجمع عشرون منهم على أن كاتبهم المفضل «رجل صلى لله شكراً يوم هزيمتنا فى 67»!
3- اُخترت فى مناسبة ثالثة ضمن لجنة للتحكيم فى مسابقة بحثية عن «دور الشباب فى مكافحة الإرهاب والعنف». وقد طالعت أكثر من أربعين بحثاً تبارى أصحابها فى البحث عن تفسير لظواهر العنف والإرهاب. بعضهم اتهم المرأة التى خرجت إلى العمل وأهملت أبناءها وتركتهم نهباً لآفتين: المخدرات والإرهاب.
وفات صاحب الدراسة أن أمهات المتطرفين فى قرى الصعيد لا يعملن! والبعض الآخر أنحى باللائمة على أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لأنها قصرت فى تقديم صحيح الدين، وجارت على البرامج الدينية زمناً ومساحة، واتخذت فى اختيار الدعاة منهجاً انتقائياً فاستدعت البعض واستبعدت آخرين. وكان البعض الثالث رحيماً بالثقافة والفنون ووجه جام غضبه إلى نظام التعليم الذى يقوم على أمره متآمرون، ويخطط له خبراء خبثاء من العلمانيين المارقين الخارجين على الملة يستوحون مناهجه من الغرب الكافر!
هذه ثلاث عينات حية لثقافة الشباب المصرى الذى نبكى حاله، أرفعها لمن يهمه أمر تعليم وتثقيف وتكوين هؤلاء الشباب من وزراء التعليم والثقافة والشباب ورؤساء الجامعات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى ذات العلاقة.