من قال إن المفاوضات -أى مفاوضات- أمر سهل أو يسير؟
التفاوض شكل من أشكال الحروب غير العسكرية، خاصة إذا كانت تتعلق بحدود وحقوق تاريخية، أو تخص إنهاء حرب، وسيادة سلام وهدوء.
تقول أولى قواعد التفاوض إن من يملك هدوء النفس وضبطها يستطيع إجادة اللعب بالأوراق، ومن استطاع اللعب الجيد خرج بأقل الخسائر.. إن لم يكن قد خرج منتصراً!
ولم تنجُ أى عملية تفاوض فى التاريخ من المزايدة وكيل الاتهام بالتقصير!
حدث ذلك مع الرسول محمد فى مفاوضات «الحديبية»، والرئيس السادات فى مفاوضات «كامب ديفيد»، والرئيس مبارك فى مفاوضات «طابا»، على سبيل المثال.
مفاوضات «سد النهضة» التى تقودها الدولة المصرية منذ سنوات مع الأشقاء الإثيوبيين والسودانيين عنوان بارز للمزايدة، غير أننى أستطيع رصد عدد من النقاط التى تتعلق بسير المفاوضات وموقف الدولة المصرية وهى كالآتى:
أولاً: المفاوضات لا تزال مستمرة والإدارة الأمريكية على تواصل كامل مع الجانب الإثيوبى، ما يعنى أن الأمر لم ينتهِ بعد كما يقول البعض.
ثانياً: الدولة المصرية تقدّر انشغال إثيوبيا مؤخراً بالأوضاع الداخلية لديها، خاصة مع اقتراب الانتخابات المحلية، ومصر حريصة على عدم التدخل فى الشئون الداخلية لأى دولة بشكل عام، وفى الداخل الإثيوبى والسودانى بشكل خاص، وذلك ثابت من ثوابت الدولة المصرية العريقة.
ثالثاً: سرعة توقيع مصر بالأحرف الأولى على اتفاق واشنطن يثبت يقيناً مرونة مصر فى إنهاء التفاوض فى اتفاق يرضى جميع الأطراف.
رابعاً: مصر لن تدّخر جهداً كى تحقق أمنها المائى وحقها المشروع فى مياه النيل مع عدم التأثير سلباً على متطلبات التنمية فى إثيوبيا.
خامساً: اتفاق واشنطن أصبح خطوة نهائية غير قابلة للنقاش، خاصة أن الإدارة الأمريكية كوسيط هى التى سطّرته بعد عدة لقاءات جادة مع وفود الدول الثلاث.
سادساً: أثبتت مصر حُسن النوايا الجادة أمام المجتمع الدولى -بتوقيع الاتفاق عبر وسيط دولى كبير- فى أن الدولة المصرية تريد الوصول إلى صيغة اتفاق سلام يحقق مصالح الدول الثلاث، وبذلك تكون مصر قد ألقت الكرة فى الملعب الإثيوبى والساحة الدولية.
هذه النقاط الست تؤكد بوضوح أن مصر تدير المفاوضات باحتراف شديد وأنها ستنجح فى مفاوضات سد النهضة، وستصبح جزءًا من التاريخ والذكريات البطولية للمفاوضين فى مصر والسودان وإثيوبيا.
وإنى على يقين أن إرادة السلام ستنجح طالما أُريد تحقيقها على أرضية مراعاة المصالح العامة للشعوب الثلاثة، القائمة على عدم الإضرار بالأمن المائى لكل دولة، وعلى رأسها مصر (دولة المصب)، ولن تنجح لغة التعنت والمعاندة والمزايدة وتوظيف التفاوض فى مزايدات داخلية أو غيرها.
كل ذلك مرهون، كما أشرت آنفاً، بالتزام المشاركين فى وفود التفاوض بمهارات ضبط النفس وعدم الانزلاق وراء النوايا السيئة والنظر باستهانة فى قضايا حياة الشعوب، والإيمان بأن طريق التعاون والتكامل هو الطريق السليم لبناء نهضة فى الشمال والجنوب.
هذه النهضة المنشودة تقوم على الإقرار بحق كل دولة فى السلام وعدم الانسياق وراء تعنت قد لا يؤدى إلى شىء، لأن الجميع حينها سيتعرض للخسارة!