"طبق الأصل".. باحثون يحيون حكايات تراثية عن الأوبئة تشبه زمن كورونا
أيمن: هدفي توعية أصدقائي.. وحامد: تذكرتها مع حالة العالم حاليا
تعليمات صحية لتجنب الإصابة بالكوليرا قديما
لم يختلف عن غيره من الأوبئة التي طالت البشرية على مر عصورها، وإن كان باء كورونا مستحدثًا فالتاريخ يحوي مواقف مشابهة، مَن يفتش يجد الحكايات تتوالى عن أمراض وأوبئة حاصرت المحروسة كباقي مدن العالم، ليبدأ اثنان من محبي التراث في نشر ما احتفظت به الذاكرة أو عُثر عليه بالبحث عن الكوليرا والطاعون، وحكايتين ارتبطتا بالقاهرة وما يدور فيها، تصلح لأيام الكورونا، ليزيد المشهد الضبابي وضوحا.
قبل 73 عامًا وتحديدًا في 25 سبتمبر 1947 على باب مستشفى حميات العباسية، فوجئ الدكتور إبراهيم حسن بدكتور زميل يستقبله على باب المستشفى بجملة "الكوليرا وصلت المستشفى"، من هنا كانت بداية المشهد الضبابي الذي يرويه الباحث في التراث المعاصر أيمن عثمان، عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، ليزيد من توعية أصدقائه، حسب حديثه لـ"الوطن"، حتى يكفوا عن الاستهتار بالفيروس ويعرفوا الحجم الحقيقي للمشكلة.
تحرك الدكتور إبراهيم لجناح العزل، وكشف على المريض المسجل فى سجلات المستشفى برقم 6937، وتأكد أن الكوليرا دخلت المستشفى، أو بمعنى أدق دخلت مصر بعد غياب 45 سنة انحسرت فيها فى ولاية البنجاب بالهند، وواجهت مصر أربعة سيناريوهات.
أول سيناريو كان اجتماع طارئ نتج عنه حالة الطوارئ في الحميات، وعلقت لافتات "لا راحة ولا سكون"، وامتدت الطوارئ لكل مستشفيات مصر "حكومية وخاصة وخدمية وأهلية"، وبالحوار مع 6937 اكتشفوا إنه كان يعمل في معسكر إنجليزي، ومعسكرات الإنجليز فيها من كل لون ومن كل جنس، وفي نفس توقيت تحرك الأطباء كانت الكوليرا تفشت في الشرقية والقليوبية والقاهرة بعد أقل من أسبوع من اكتشاف الحالة الأولى.
من هنا كان السيناريو الثاني، وهو توزيع لافتات تعليمات صحية في كل مكان "الزموا بيوتكم.. ممنوع منعا باتا السلام باليد.. ممنوع منعا باتا البصق على الأرض.. ممنوع استخدام سماعة التليفون العام.. بلغوا عن مرضاكم.. ممنوع التنقل من مكان لمكان"، ولم تلق التحذيرات صدى عند الناس فزادت أعداد المصابين، وزادات الأماكن والمحافظات المنكوبة.
وكان السيناريو الثالث، صدرت الأوامر بتأجيل الدراسة وأغلقت دور العبادة ومنع الحج، ولم تكن المرة الأولى التي يُمنع فيها الحج، ولم يكن الحل فعّالًا واستمر الوباء في الزحف، وكان السيناريو الرابع حتمي، وهو ما طُبق في أكتوبر 1947.
داخل غرفة عمليات بقيادة رئيس الوزراء النقراشي باشا، ووزير الصحة نجيب إسكندر، أعطى النقراشي وزير الصحة كل الصلاحيات السياسة والتنفيذية للقضاء على وباء الكوليرا، فأصدر نجيب باشا قرار حظر التجوال بين المحافظات إلا بأمر كتابي منه، وأمر بسيطرة الشرطة والجيش على كل مداخل ومخارج المدن والمحافظات، وطالب نجيب باشا من الشعب ضرورة التبليغ عن الحالة أو حتى المشكوك فيها أول 24 ساعة من معاناته رحمة به وبأهله، ووصل الأمر لتفتيش البيوت.
ولخص أيمن حرب الكوليرا في أربعة أشكال وهي: الحرب الأولى ضد الوباء "سبتمبر 47 : نوفمبر 48"، الحرب الثانية ضد الاستهتار، الذي زود حجم الحرب الأولى، والحرب الثالثة ضد الهلع والخوف على النفس من العزل الصحي، فكان بيتم إخفاء المرضى، فزادت كارثة الحرب الأولى، والحرب الرابعة ضد أغنياء الحرب، وسموا بأغنياء الحرب لأن ظهورهم كأغنياء جدد يكون تحت مظلة حرب أو أزمة أو نكبة، وقال عليهم النقراشي باشا فى أزمة وباء 47 "الجشع أكثر فتكا بالمصريين من الكوليرا".
سبق الكوليرا حرب الطاعون، الذي هاجم مصر على فترات متعددة، وكان يعرف بـ"الموت الأسود"، وخلف الكثير من الضحايا من بينهم سرداح بن مقبل، أحد أشراف مكة، والذي سكن القاهرة ونجا بمعجزة من تعذيب المماليك له، ليقضي عليه الطاعون، كما يحكي حامد محمد حامد، الباحث في التراث المصري والحاصل على على دبلومة أنثروبولوجي من كلية الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، بعد أن داهمت الوقائع ذاكرته إثر ما يحدث في العالم نتيجة انتشار فيروس كورونا، حسب حديثه لـ"الوطن"، وشارك بها أصدقائه على "فيسبوك".
تعرض سرداح على يد المماليك لطريقة تعذيب وحشية تدعى "التكحيل"، حيث يجلبون إبرة نحاسية "ويسخنوها على النار لغاية متحمر.. ويروحوا مكحلين عين السجين بيها لغاية ما يتعمي"، فكان سلاطين المماليك السمؤولين عن تعيين أشراف الحجاز ومكة والمدينة في مناصبهم، والأشراف كانوا يحصّلون مكوسا ''إتاوات'' كبيرة على التجارة القادمة من الهند، وسلاطين المماليك كانوا يتركون الأشرف ويحصلون على مبالغ ضخمة مقابل تعيينهم في هذه المناصب، وإن حدث خلل في الاتفاق يقبضون عليهم ويتعرضون للتعذيب، مثل ما تعرض له سرداح في سجن الإسكندرية، حتى غادر إلى الحجاز واسترد هناك بصره، حيث روي أن الرسول محمد جاءه في المنام وردَّ إليه بصره واستيقظ مُبصرًا، وعاد إلى مصر مرة أخرى، واعتبر الجميع ما حدث معجزة، وكان سرداح مقتنعًا بمحاوطة العناية الإلهية له حتى مات بعد تلك الحادثة بسنوات في القاهرة بسبب وباء الطاعون.
وذكر المؤرخ المصري ابن تغرى بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" أن "الطاعون الذي راح ضحيته سرداح كان من أعظم الطواعين كلها وأفظعها، ولم يقع بالقاهرة ومصر بعد الطاعون العام الذي كان سنة تسع وأرّبعين وسبعمائة نظير هذا الطاعون، وخالف هذا الطاعون الطواعين الماضية في أمورّ كثيرة، منها أنه وقع في الشتاء وارتفع في فصل الربيع، وكانت الطواعين تقع في فصل الربيع وترتفع في أوائل الصيف".