على وقع تفشى «فيروس كورونا» أثبت نتنياهو أنه الأكثر حظاً والأكثر دهاء من كل ساسة إسرائيل، يعرف متى يتحرك وماذا يقول وكيف يناور وكيف يحيك المؤامرات ومتى يطلق التحذيرات والشعارات الرنانة وأين يصفع مناوئيه. بحركة ذكية، وتحت وطأة انتشار الفيروس، وتحت شعار نحو حكومة وحدة وطنية استقطب منافسه وغريمه إلى صفه، وتحت ضغوط رئيس إسرائيل، أقنع غانتس أن يكون رئيساً للكنيست رغم معارضة أركان حزبه «أزرق أبيض»، ودفعه لقبول صفقة تعطى فرصة لنتنياهو أن يشكل حكومة، مناصفة بين التكتلين، رغم أن حزب غانتس انشق على نفسه ولم يعد موجوداً كما كان عليه الحال أثناء العام الماضى وحتى انتخابات مارس الماضى.
أثبت نتنياهو أن غريمه ليس له كلمة، وأنه كما يُقال عنه شخص متردد ضعيف الشخصية، يطلق الوعود وسريعاً ما يتراجع عنها، وإجمالاً لا يستطيع أن يقود البلاد وأن حزبه ليس سوى مجموعة من هواة السياسة، الذين يتراجعون عن وعودهم أمام جمهور تصور سابقاً أن غانتس ورفاقه قادرون على صنع بديل لنتنياهو. لم يعد هناك بديل، ولم تعد هناك قوة حزبية قادرة على وقف نتنياهو وطموحاته السياسية التى لا سقف لها. لم تعد الاتهامات الجنائية الموجهة لنتنياهو ذات معنى. فاليمين العاشق له لا يهمه تلك الاتهامات أو المحاكمة أو دلالة أن يقود البلاد شخص متهم بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. المحاكمة ذاتها ونتنياهو على مقعد رئيس الوزراء لن تستمر كما يفترض أن تكون. نفوذ نتنياهو ومريديه سوف يحد حتماً من قدرة المحكمة على إدانة نتنياهو، وغالباً سوف تستمر المحاكمة إلى مدى قد يستطيع خلاله مؤيدو نتنياهو سن قانون يمنع المحاكمة من أصلها، وهى التى تم تأجيلها شهراً ونصف الشهر ولم تبدأ بعد.
كان غانتس ورفاقه فى الحزب قبل أن ينفرط عقده وبدعم من القائمة العربية المشتركة يصرون على تمرير مشروع قانون يمنع تولى رئاسة الوزارة لشخص وجه إليه القضاء اتهامات وينتظر المحاكمة. وبعد اتفاق غانتس ونتنياهو لن تكون هناك فرصة لتمرير مثل هذا القانون، والأرجح أنه سيتم سحبه وكأن لم يكن.
تولى غانتس لرئاسة الكنيست كأحد عناصر الاتفاق لتشكيل حكومة وحدة يتولاها نتنياهو أولاً لمدة عام ونصف، سوف ينتج عنها مجموعة من القوانين التى وعد بها نتنياهو، أبرزها ضم المستوطنات اليهودية فى الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، وضم غور نهر الأردن، وكلاهما يمثلان حوالى ثلث مساحة الضفة الغربية التى يفترض أنها أرض دولة فلسطين التى تكافح من أجلها السلطة الوطنية الفلسطينية، فضلاً عن إصدار قانون القومية اليهودية، الذى يعنى عملياً معاملة الفلسطينيين فى الكيان الإسرائيلى معاملة الدرجة الثانية، ما قد يحرمهم من مشاركة أية أحزاب لهم فى أى انتخابات مقبلة، باعتبار أنهم سيكونون من المقيمين وليسوا من المواطنين غير اليهود.
إن سمات شخصية غانتس ذاتها، كالتردد والقناعات اليمينية ذاتها التى يؤمن بها نتنياهو، قد تشكل أحد أسباب قبوله مثل هذه التسوية، بيد أن الأمر لا يتوقف عن هذه السمات الشخصية، فنتائج الانتخابات الثالثة التى جرت فى مارس الماضى ذاتها شكلت بدورها دافعاً مهماً فى أن يتخلى غانتس عن طموحه وطموح رفاقه أعضاء «أزرق أبيض» فى إبعاد نتنياهو عن المشهد السياسى الإسرائيلى والزج به إلى السجن، إذ لم توفر له النصاب الذى يمكنه من تشكيل الحكومة، حتى مع دعم غير مباشر من القائمة العربية المشتركة، فى الوقت ذاته استطاع خصمه اللدود أن يروج لفكرة حكومة وحدة وطنية تستطيع أن تواجه خطر فيروس كورونا المستجد، وأنها الحكومة الوحيدة التى ستكون قادرة على اتخاذ قرارات صعبة بدون معارضة لمحاصرة تفشى الوباء من جانب، ومعالجة الآثار الاقتصادية الكبرى المنتظرة من جانب آخر، التى بدأت بوادرها فى الظهور فى صورة ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، بأعداد تقترب من المليون عاطل.
تشكيل هذه الحكومة سوف يعيد ترتيب المشهد الحزبى الإسرائيلى على نحو كبير، أحد أهم عناصره أن حزب «أزرق أبيض» كتكتل وسطى قد اختفى من المشهد السياسى، فبالرغم من أن غانتس سوف يحتفط بالاسم لنفسه وبعض الأعضاء الذين قد ينضمون للوزارة الجديدة، فإن التكتل الوسطى قد انفرط، وخرج يائير لابيد وموشى يعالون، وهما الحليفان الرئيسيان لغانتس ويشغلان 18 مقعداً من 33 مقعداً لتحالف «أزرق أبيض»، ويتجهان إلى تشكيل حزب آخر، فضلاً عن شكوك من تبقى مع غانتس فى تطبيق نتنياهو لتعهده بالتناوب فى رئاسة الحكومة مع غانتس. ومجمل الصورة الحزبية الجديدة يفرز نتيجتين؛ الأولى انتهاء الآمال فى بروز حزب وسطى يستند إلى القناعات الصهيونية، ويعارض التوجهات اليمينية التى يمثلها الليكود والأحزاب الدينية. والثانية مزيد من الرسوخ للتوجه اليمينى الذى يقوده الليكود وتحالفه مع أحزاب دينية متطرفة وجماعات المستوطنين. ومن ثم فإن أى رهان على بروز تيارات سياسية إصلاحية هو رهان فاشل بامتياز، يقابله سطوة اليمين المتشدد على حاضر إسرائيل ومستقبلها. ولذا فإن ما بعد احتواء كورونا وما سوف ينتج عن تفشى الوباء من تداعيات اقتصادية، قد يغرى هذا اليمين ذى السطوة السياسية على التوجه نحو حرب سواء ضد غزة أو لبنان أو إيران، للتغطية على صعوبات الأزمة الاقتصادية شبه المؤكدة.
أما فى الداخل الإسرائيلى، فسوف تنمو التيارات الداعية إلى نزع أى حقوق، بما فى ذلك الحقوق المدنية والبلدية عن فلسطينيى 1948، باعتبارهم مقيمين وليسوا مواطنين حسب قانون الدولة اليهودية، وليسوا مؤهلين للعيش فى ظل دولة يهودية خالصة، هم يرفضونها أصلاً من حيث المبدأ. ولن تكون فرصة التفاوض مع السلطة الفلسطينية بأفضل حال، فمجرد بقاء نتنياهو على رأس الحكومة الجديدة لمدة عام ونصف، سينظر إليه كفرصة تاريخية لفرض ما يعرف بصفقة القرن، وإن لم يقبلها الفلسطينيون، فهى فرصة أفضل لفرض كافة التصورات اليمينية والتمييزية ضد كل ما هو فلسطينى.
ومع أن هذه التطورات المرجحة تشكل اختباراً صعباً للسلطة الوطنية الفلسطينية، فإنها تعيد تشكيل ظروف النضال الفلسطينى من جذوره، إذ فيها بداية فرصة لطرح فكرة دولة واحدة ذات قوميتين كحل تاريخى، يتساوى فيه الفلسطينيون واليهود فى كل الحقوق والواجبات على كامل أرض فلسطين التاريخية. والغالب لن يقبل اليمين الإسرائيلى مثل هذا الطرح الثورى، ولكنه فى الآن ذاته سيبلور أزمة إسرائيل باعتبارها دولة تمارس الفصل العنصرى المكروه.