زقزوق.. الفيلسوف إماما للمجددين
الدكتور محمود حمدي زقزوق
عاش الدكتور محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء ووزير الأوقاف الأسبق، والذي وافته المنية اليوم، حياة حافلة في خدمة الدين والفلسفة الإسلامية، وخاض غمار موضوعات فيها لم يسبقه أحد لمناقشتها، وتخصص الدكتور الراحل بشكل كبير في مناقشة الفلسفات الغربية، والرد على المستشرقين، وتميز أسلوبه بالعقلانية والموضوعية الشديدتين، فقد كان فيلسوفا رصينا مدركا وواعيا، وليس شيخا عاطفيا بلا منطق.
كان الهدوء أهم سمات وصفات الدكتور زقزوق، فلم يسمع أحد قط النبرة العالية لصوته، وكان هدوءه هذا ينعكس على فلسفته وتعامله مع الآراء المختلفة، فهو لم يكن يرفض الفكر الغربي بالجملة كما الكثيرين، وإنما ينقد ما يراه غير واقعي ولا عملي، ويقتبس ما فيه خير للحياة والناس من آراء وفلسفات ويقربها للأزهريين، والباحثين العرب والمسملين، فقد كان جسرا حقيقيا بين الشرق والغرب.
ألف الدكتور الراحل العديد من الأبحاث والكتب التي كانت بمثابة علامات في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، منها المنهج الفلسفى بين الغزالى وديكارت، والإسلام في تصورات الغرب، ومقدمة في علم الأخلاق، القاهرة، ودراسات في الفلسفة الحديثة، القاهرة، وتمهيد للفلسفة، ومقدمة في الفلسفة الإسلامية، والإسلام في مرآة الفكر الغربي، والدين والحضارة، والدين والفلسفة والتنوير.
وكان الدكتور زقزوق أول من طالب بالتجديد الديني، وألف في ذلك كتبا، حتى لقب بشيخ المجددين وإماماهم في العصر الحديث، وطالب في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورات التجديد"، والذي صدر عن هيئة كبار العلماء بالأزهر، بضرورة الإدراك الواعي بمقاصد الشريعة الإسلامية لأن هذا من شأنه أن يُحرك المياه الراكدة ويُحيي الأمل في النفوس المحبطة، ويُحفز الهمم، ويُوقظ الغافلين، ويدفع الكسالى إلى العمل المثمر، لافتًا إلى أن الأمل كبير في عودة الوعي إلى جماهير المسلمين وعلمائهم وقادتهم ليخرجوا بعالم الإسلام من النفق المظلم الذي حُوصر فيه، والأخذ بيده إلى مستقبل مشرق يستعيد فيه المسلمون أمجادهم وعزتهم وحضارتهم ويسهمون إسهامًا فعالًا في تقدم وسلام البشرية جمعاء.
وعن المسلم الحق، الذي يريده الإسلام، يوضح زقزوق أن الإسلام يريد مسلمًا متفتح العقل، متيقظ الوعي، يعيش دنياه ويعيش عصره، ولكنه لا ينسى صلته بخالقه، بل يظل موصولًا بأصله الروحي، مضيفًا أن الإسلام يريد مسلمًا يعمل على تقدم مجتمعه وتطويره، متسلحًا بالعلم والوعي بمتغيرات العصر، متفاعلًا مع الآخرين ويتعايش في سلام مع كل الناس من كل الأعراق والأديان والحضارات.
ويحذر زقزوق من أن غياب الوعي بهذه المقاصد والانشغال بالأمور الثانوية والقضايا الهامشية يجعل المجتمع يتوه في دوامة من اللاوعي تبتلعه وتبتلع نشاطه العضلي والفكري وتجعل منه فريسة لكل الظواهر السلبية التي تجعله في النهاية لقمة سائغة في فم الآخرين.
وأثناء توليه وزارة الأوقاف المصرية، والتي استمر على رأسها لأكثر من خمسة عشر عاما، نقل الدكتور زقزوق عقلانية الفيلسوف تلك لمؤلفات الوزارة، فأشرف على عدة مطبوعات، لاقت قبولا غير مسبوق مثل موسوعة "حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين" التي طبعت مئات الطبعات ومازالت تطبع حتى يومنا هذا.
ونال الدكتور زقزوق العديد من التكريمات كان آخرها تكريم الدكتور مصطفي مدبولي رئيس الوزراء المصري له نيابة عن الرئيس عبدالفتاح السيسي، شهر يناير الماضي، تقديرًا لجهودهما في تجديد الفكر الإسلامي، وتعزيز السِّلم، ونشر سماحة الإسلام.
ولد زقزوق بمحافظة الدقهلية، في 27 من ديسمبر سنة 1933م، وحصل على الإجازة العالية (الليسانس) من كلية اللغة العربية بالأزهر عام 1959م، ثم شهادة العالمية مع إجازة التدريس من الكلية ذاتها عام 1960م، ونال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونخ الألمانية عام 1968م، وحصل على درجة أستاذ بجامعة الأزهر عام 1979م.
وقد قام بمهمة التدريس وتولي العديد من المناصب العلمية والإدارية بجامعة الأزهر والجامعات العربية والإسلامية، وله العديد من المؤلفات العلمية المتنوعة في علوم الفكر والعقيدة والفلسفة الإسلامية، بالإضافة إلى العديد من المؤلفات والأبحاث المنشورة فى المجلات العلمية المحكمة والمؤتمرات الدولية المختلفة، واختير عضوًا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ووزيرًا للأوقاف من عام 1996 حتى 2011م، وعضوًا بمجمع البحوث الإسلامية، ثم عضوًا بهيئة كبار العلماء في تشكيلها الأول حين عودتها عام 1433هـ/ 2012م، بالإضافة إلى عضوية مجلس حكماء المسلمين.