علمونا أن لكل قصة بداية ووسطاً ونهاية... ونحن العاملين فى مجال الأخبار اعتدنا تطور القصص ومرور أحداثها بتحولات فاصلة من واقع حسابات السياسة أو من وحى دفاتر التاريخ.. لكن أكثرنا بصيرة لم يكن ليتوقع أن تصل قصة فيروس كورونا لما تدوّنه أحبارنا اليوم من مآسٍ.. أليست مأساة أن تسجل منظمة الصحة العالمية مليون حالة إصابة بالفيروس حول العالم وخمسين ألف وفاة؟ وهل أتى على البلاد يوم أوصدت فيه كل المساجد والجوامع؟ أو مر على العباد يوم صلى فيه بابا الفاتيكان وحيداً من أجل الإنسانية؟؟ ثم هل هناك أعجب وأقسى من أن يكون احتضاننا لمن نحب هلاكاً لهم.. فيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه؟؟ القصة بدأت خبراً صغيراً فى هامش جريدتى.. عنوان غامض فى شريط أخبار أسفل شاشة التليفزيون.. عن فيروس مجهول فى جزء بعيد من العالم.. قبل أن تتوالى الأخبار أسرع مما يسعفنى التذكّر.. واحد عن العزلة والخوف.. آخر عن الموت والفقد.. وفى التفاصيل سقوط أخلاقى مدوٍ للعالم الذى نعرف.. العالم الذى لطالما افتخرنا بكونه قرية صغيرة.. صغيرة لدرجة أن آلة حصد الأرواح اجتاحت معظم أنحائها فى أسابيع معدودات.. داست فى طريقها من داست.. وتركت البقية منكفئين على ذاتهم.. يدير الواحد منهم ظهره للآخر.
فى زمن كورونا، رأينا ما هو أعجب من أهرامات المصريين وتماثيل اليونان.. فبينما يتحضّر ساكن البيت الأبيض لمعركة الولاية الثانية.. حدث ما لم يكن فى الحسبان.. اجتاح تسونامى كورونا البلاد.. لا اقتصاد أنقذ الولايات المتحدة، ولا ديمقراطية شفعت لها.. فاق عدد الضحايا آلافاً خمسة فى أيام قليلة.. صاروا ينقلون جماعة فى شاحنات.. وفى دولة تشهر الاقتصاد سلاحاً فى وجه المشككين والمعارضين، تقدم نحو سبعة ملايين مواطن بطلبات إعانة للحكومة.. من كان يتصور أن يحطم كائن لا يرى بالعين المجردة أكذوبة العالم الأول.. مغيراً أحجام وأدوار لاعبيه الكبار؟
دعك من أمريكا.. القارة العجوز لها نصيب الأسد من وفيات الفيروس فى العالم.. شيّعت لومبارديا الإيطالية الآلاف من أبنائها.. وانطفأ نور الحياة فى مدريد.. أمّا باريس الطموحة الساعى رئيسها لقيادة الاتحاد الأوروبى، فانكمشت فجأة على ذاتها تخشى مصير جيرانها.. التردّد الفرنسى انقلب تحفّظاً ألمانياً... وبلا خجل أو مواراة احتدم النقاش فى بروكسل حول سندات إقراض تحمل اسم الفيروس اللعين...لا يُلام هنا من كفر بالتكتل، وأنزل علم الوحدة الأوروبية فى دولة عضو.. ولا عتب على من استقبل المساعدات الروسية بالحفاوة والترحاب والزهور، فتلكؤ كيان استُثمر فى تأسيسه الكثير عن تقديم المساعدة لأعضائه المتضررين نزع ورقة التوت عن هشاشة مفهوم الوحدة بين دول قارة لم تعد عجوزاً فقط.. إنما شاخت وهرمت.
العجائب فى زمن كورونا أكثر من سبع.. والمؤكد أن ما بعد الوباء لن يكون أبداً كما كان من قبله.. فكرة الثلج التى تدحرجت بين دول العالم وقاراته قد ترسم نظاماً عالمياً جديداً.. وتُرسى معادلات قوى مختلفة.. والأهم أنها بيّنت لنا أن البقاء لم يعد للأقوى ولا للأغنى.. بل للأكثر إنسانية.