فى المُلمات تُظهر الأمم قدراتها، والأمم الكبيرة تبحث عن أنصاف وأرباع الفرص فى الأزمات، وتقوم بتحويلها إلى مكاسب بدلاً من الخسائر التى تواجهها جراء تلك المحن، وهى حالة تتعرض لها الشعوب، وتخرج منها بأوضاع أفضل، إذا أحسنت استغلال الظروف.
وفى مصر مشكلة مزمنة، حارت كل العقول فى شأنها، وعجزت عن حلها، اسمها التعليم، وهى حالة غريبة جداً، إذ يتوافق الجميع ويتفق على أنها مشكلة عويصة، لكن لم يحدث أن حاز حل الملف وإنهاء المشكلة على توافق أو تفاهم بين الأطراف المختلفة، وظلت المسألة فى إطار وسياق الشد والجذب منذ حقب وعصور ممتدة.
مشكلة التعليم فى مصر «جهنمية» لأنها من المسائل الممتدة والمتواصلة، وإذا كان البعض يختلف أو يتفق مثلاً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، إلا أن الجميع بما فيهم الدولة نفسها تتفق على أن التعليم يحتاج لتصور مختلف، وللحقيقة عجزت كل التصورات التى جرى طرحها فى مختلف العصور عن توفير الحل الملائم.
ومن مفارقات المشكلة، تراجع وتقلص الجوانب الإيجابية لملف التعليم، وتفاقم وتضخم الجوانب والمظاهر السلبية بصورة مزعجة، حتى إن مثلاً مسألة الدروس الخصوصية، تحولت من ظاهرة فردية لتلميذ فى منزله، إلى مراكز كبرى تحتل مبانى ضخمة، وأصبحت تشابه المدارس فى المبانى، وبدأت تقترب من أعدادها أيضاً، حتى إنك لم تعد تفرق بين المدرسة والمركز، من تشابه الحالة وربما أيضاً تماثلها.
الدكتور طارق شوقى منذ توليه مهام منصبه، بذل جهوداً ضخمة، ومحاولات حثيثة ومضنية، لحل معضلة الأزمة المزمنة، وأجرى أبحاثاً، وعقد ورش عمل، وطرح تصوراً، حاز تأييد البعض وإعجابه، وحاز الرفض والانتقاد من البعض، كنت شخصياً واحداً من هؤلاء، الذين وجهوا انتقادات حادة لمشروع الوزير.
وقديماً قالوا إن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، لكن مع ضغوط الزمن والتكنولوجيا الحديثة أصبح أحياناً يُفسد، لكن يتبقى أنه طالما كانت القاعدة آمنة والرغبة صادقة، فلا مشكلة وإنما هناك نية جادة للوصول للحل.
أزمة كورونا فرضت علينا واقعاً مختلفاً جذرياً عن حياتنا السابقة، ودفعت بالوطن وناسه فى مسار ثقافى مختلف، وأصبح أغلب الناس أطباء يتحدثون فى فيروس كورونا، وطبيعة الفيروس، وكيف ينتشر، وكيف نقاومه، وهكذا بدل ما كنا نهتم بكرة القدم مثلاً، ونمنحها جل اهتماماتنا وأوقاتنا، أصبح الفيروس والوقاية والعلاج فى الصدارة.
وفجأة أيضاً، وجد الدكتور شوقى نفسه فى مفترق طرق، ويواجه ضغوطاً مزعجة، لا طاقة لدولة بها، والمطلوب منه علاج يحقق استمرار العملية التعليمية، دون المساس بالمناهج، وفى نفس الوقت يوفر المناخ والمجال الآمن الملائم لأطفالنا التلاميذ.
لا أعرف إذا ما كان الأمر مصادفة أم خضع لدراسة وبحث مقصود؟، لكنى أعرف ما هو أهم، أن القرار يحتاج إلى شجاعة وفهم، وأن تمر أمامك الصدف شىء، وأن تتمكن من التقاطها وتوظيفها بشكل صحيح شىء آخر وهو الأهم، لأنه يدل على قدرات ومهارات، لا تتوافر لكل الناس.
ومن هذه المظاهر، التقاط وزير التعليم خيط الأبحاث وسيلة لاختبار قدرات الطلاب ومهاراتهم واستيعابهم لمناهج التعليم، والتعبير عن هذه الصفات، من دون ضغوط تقليدية، ولا احتياج لحفظ وصم، ولا دروس خصوصية، ولا مراكز تعليمية، ولا كتب خارجية، وخلافه كما كنا نعيش لحقب وعهود طويلة.
الحقيقة أن فكرة الأبحاث فكرة مهمة، تحتاج إلى تشجيعها، وإرادة لاعتمادها وسيلة بناء قدرات أبنائنا فى التعلم والاستيعاب والفهم والتعبير، وإنهاء عصر التلقين والتوجيه والمعلم الأبوى صاحب الكلمة الفصل فى العلم سواء كانت صحيحة أو باطلة، وما أكثر ما كنا نواجه مثل هذه الظواهر.
طبقاً لنظام الأبحاث أنت لا تحتاج من التلميذ أن يجلس كما جهاز التسجيل ليكرر ما يحفظه دون فهم، فهو نظام يعتمد على الاستيعاب وإكساب الأطفال مهارات القراءة والبحث عن المعلومات والتحليل والفهم، وهو ما يُساعد على بناء الشخصية المستقلة القادرة، وينهى عصر الامتحانات بكل ضغوطها وإزعاجها ويضع بديلاً لاختبار قدرات الحفظ، ويؤسس لمرحلة الفهم والتعبير.
فى أزمة كورونا، عثرنا على الحل السحرى من خارج الصندوق، ووجدنا ما كنا نحتاجه لانقلاب حقيقى فى العملية التعليمية، لكن ما زال الأمر غير مكتمل الملامح، والمطلوب أن ندعم المسار ونعتمده ونطوره، ووقتها سنكتشف أننا نعيش عصراً مختلفاً تماماً، لا مجال فيه لمراكز ولا دروس، وإنما تلميذ يعتمد على الفهم والبحث من خلال إرادته وتطوير قدراته بذاته.
دكتور طارق شوقى.. تقديرى أننا أمام فرصة هائلة، بدأتها أنت تحت ضغط الظروف، وهى الظروف التى ساعدتك وستساعدك لاكتساح العديد من العوائق الثقافية الجبارة والأباطرة أصحاب المصالح.