عانت معظم دول العالم من عجز شديد فى الاطقم الطبية، خاصة من الأطباء والتمريض، منذ انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد- ١٩)، التى ما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم. ومع زيادة أعداد الحالات المرضية عن الطاقة الاستيعابية للأنظمة الصحية، خاصة فى بلدان متقدمة مثل إنجلترا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، اضطرت هذه الدول إلى الاستعانة بالأطباء الذين أحيلوا إلى التقاعد للعودة إلى العمل، بل واستعانوا أيضاً بطلاب الفرق النهائية فى كليات الطب للمساعدة فى سد العجز الشديد فى أعداد الأطقم الطبية. ولكى لا يتكرر ذلك فى المستقبل، بدأت مناقشات موسعة فى بلدان كثيرة حول طرق زيادة أعداد الأطقم الطبية وتوفير كل سبل الدعم والرعاية لها لكى تكون قادرة على حماية المجتمع من أى جائحات محتملة فى المستقبل، ولكى لا يتكرر ما حدث مرة أخرى.
وفى إنجلترا، ظهرت توجهات الحكومة البريطانية لزيادة أعداد الأطباء فى المستقبل القريب، كما هو منشور فى جريدة الديلى ميل بتاريخ ٣١ يناير ٢٠٢٠، وتقدمت بمقترح لتدريب غير الأطباء من المهن المرتبط عملها بالمستشفيات مثل التمريض والصيادلة والمسعفين، تعليماً وتدريباً مكثفاً لمدة ٣ سنوات، والسماح لهم بالعمل كأطباء بعد إتمام فترة التعليم والتدريب. إلا أن هذا المقترح قد قوبل بآراء مختلفة داخل المجتمع الإنجليزى، خاصة من نقابتى الأطباء والصيادلة.
وفى مصر، حدث جدل شديد بين نقابة الأطباء ومعظم الأطباء من جهة، والمجتمع المدنى وبعض أجهزة الدولة من جهة أخرى، بعد تسريب اقتراح مقدم إلى نقابة الأطباء بمناقشة تعليم وتدريب الصيادلة، خاصة أن أعدادهم فى مصر أكبر من حاجة المجتمع، والاستعانة بهم لسد العجز المتزايد فى أعداد الأطباء. وفى هذا المقال والمقالات التالية، نعرض أسباب المشكلة وطرق حلها، من وجهة نظر محايدة تماماً، ومن واقع الخبرات المتداولة فى العديد من بلدان العالم الأخرى، خاصة فى المملكة المتحدة.
فى البداية لا بد من الإشارة إلى أن أعداد الأطباء المصريين (نحو ٢٤٠ ألف طبيب حسب إحصائيات نقابة الأطباء)، وبفرض أنه يعمل داخل مصر نصف هذا العدد فقط (١٢٠ ألف طبيب)، إلا أن نسبة الأطباء بالنسبة إلى عدد السكان فى مصر (١٠٠ مليون نسمة) تظل مقبولة حسب المعدلات العالمية، وهى طبيب لكل ٥٠٠-١٠٠٠ مواطن (حسب بيانات منظمة الصحة العالمية). مع العلم أن كليات الطب المصرية، وعددها ٣٠ كلية (الحكومية والخاصة والقوات المسلحة)، تُخَرِّج أكثر من ١٠ آلاف طبيب سنوياً، وهى أيضاً أعداد جيدة تكفى حاجة السكان، إذاً ما المشكلة؟
المشكلة الأساسية هى نقص أعداد الأطباء العاملين فى وزارة الصحة المصرية (نحو ٦٠ ألف طبيب)، بينما تحتاج الوزارة إلى نحو ١١٠ آلاف طبيب، أى إن هناك عجزاً يزيد على ٥٠ ألف طبيب. المشكلة الأكبر أن أعداد الأطباء العاملين فى الوزارة تتناقص كل عام، وأن حاجة الوزارة للأطباء فى ازدياد بعد تطبيق نظام التأمين الصحى الشامل، أى إن المشكلة قابلة للتفاقم.
ونعرض هنا أهم الأسباب التى أدت إلى حدوث عجز شديد فى أعداد الأطباء العاملين بوزارة الصحة المصرية وهى:
١- تسرب أعداد كبيرة من الأطباء العاملين فى وزارة الصحة (تقدر بنحو ١٠ آلاف طبيب فى آخر خمس سنوات، حسب بيانات نقابة الأطباء).
٢- عزوف أعداد كبيرة من الأطباء حديثى التخرج عن العمل بوزارة الصحة المصرية (أقل من ٢٥٪ من الخريجين التحقوا بالتكليف هذا العام). خاصة بعد إلغاء نظام التكليف السابق وتطبيق الالتحاق بنظام الزمالة من البداية.
٣- ازدياد أعداد الأطباء الذين يهاجرون إلى الخارج مباشرة، خاصة إلى ألمانيا وإنجلترا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا.
٤- ضعف دخول صغار الأطباء، وسوء توزيع الأطباء على مستوى الجمهورية، وسوء بيئة العمل فى المستشفيات الحكومية، وعدم الانتهاء من قانون المساءلة الجنائية للأطباء، وكلها عوامل طرد للأطباء.
٥- تغيير مسار (ترك مهنة الطب) لنسبة تقترب من ٣٠٪ من الخريجين (حسب دراسة أعدتها لجنة الدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات).
أما بالنسبة للحلول المقترحة فهى غلق الباب الذى يتسرب منه الأطباء، وافتتاح كليات طب جديدة، تحسين بيئة العمل للأطباء فنعرضها فى المقال القادم باذن الله تعالى.