فى كتابه الضافى عن الشيوعية والإنسانية، يرى الأستاذ العقاد أن المحصول من مراجعة الاشتراكية العلمية أنها فى الواقع اشتراكية طوباوية (خيالية) وغير علمية، وأنها أشد إمعاناً فى الخيال وبعداً عن العلم من الطوبيات التى قال «كارل ماركس « إنه جاء باشتراكيته العلمية لدحضها.. تخيل «ماركس» أنه يستطيع بالواقع العلمى أن يوفق بين الاشتراكية التى يدعو إليها وبين الفظائع التى يرصدها فى طريقها!
وهذا الخلط بين العلم والخرافة، جدير بالسخرية، ولكن الأجدر منه بالسخرية، من يجوز عليه هذا التخليط واللغط بالعلم.
لقد استعار «ماركس» هذه التلفيقة الفلسفية لنواميس المادة والمال، وكان «هيجل» يقول إن الفكرة تحمل ضدين، ثم يجتمع الضدان فى تركيب واحد يخرج منه ضده، وهكذا دواليك، إلى أن يأتى الموعد الذى تبطل فيه الأضداد وتنطوى فى الفكرة المطلقة إلى الأبد الموعود. وجاء «ماركس» فقال فى استعارته إن هذه التلفيقة تصير صواباً لا صواب غيره إذا ما طبقنا هذا الفكر على مسائل المادة والاقتصاد، وخَيَّل أن النواميس الكونية تعمل على هذا النهج، بيد أن هذه النواميس لم تعمل شيئاً على وفاقه!
كان «انجلز» مخلوقاً مؤنث المزاج بتعبير العقاد، يكتب إلى أخته وهو فى الثالثة عشرة فيروى لها أخبار الكتاكيت. وكان من طبيعته أن يقع تحت تأثير كل شخصية يعاشرها فترة من الوقت، ولو كانت شخصية فتاة يعولها.. فكانت «مارى بيرنز» فتاته الأيرلندية هى التى قادته إلى وكر الثوار الأيرلنديين، ولم يكن مذهب «إنجلز» أن تستقل الشعوب الصغيرة، لأنه كان ينصح الشعوب الأوروبية الشرقية بالاندماج فى الأقوام الكبرى التى تحدق بها، ولكن قادته فتاته الأيرلندية إلى حيث شاءت لأنه سهل الانقياد!
وعقدته الأخرى أن أباه الصارم كان يشعر بخيبة الأمل من ميوعة ولده وخليفته فى عمله، فقد كان الأب شديد التدين على مذهب «كالفن» المشهور بالتعصب والحمية، فأدخل ابنه مدرسةً فى رعاية أستاذ معروف بالصرامة والرياضة على الجد والعقيدة الدينية، بينما لم تكن للابن طاقة بالجد ولا بالعقيدة.. فانتهى به الأمر إلى الفرار من العمل فى مصنع أبيه ليعيش مع «كارل ماركس» فى بروكسل. وفى سيرة «باكوتين» إمام الشيوعية الفوضوية، إيماء إلى فجيعة فى رجولته وعلاقاته بعشرائه من الفتيان المهاجرين إلى سويسرا، وكان يتزوج وهو يعلم أنه لا مأرب له فى الزواج فتفارقه زوجته بإذنه لتلحق بعشيقها فى إيطاليا ثم تعود إليه حاملاً ثم تفارقه مرة أخرى، ثم لا تلبث أن تبلغه أنها حامل وستعود للوضع لديه. وقد آل هذا التراث الملوث فيما ينقل إلينا العقاد إلى زعيمين منفذين، هما أكبر من تولى الشيوعية بعد قيام دولتها فى بلاد القياصرة: «لينين» و«ستالين»، وكلاهما ناقص التكوين من مولده، وكلاهما منعوت بألسنة ذويه بنعوت تسلكهما فى زمرة بعيدة عن الصدق وحب الخير والصلاح. ويتعقب العقاد ما أحاط بـ«لينين» من طفولته وخلال أدوار نموه، ليثبت أنه خرج بمجموعة من السلبيات، وهو ما انعكس فى مقولات تشف عن ذلك، بعضها فى حديث رواه عنه «مكسيم جوركى» الكاتب الروسى المشهور!
ويضيف العقاد أن «لينين» أصيب بالعجز التام عن الحركة فى آخر أيامه، وقيل إن ذلك كان من أثر رصاصة لم تقتله، وقيل بل من أثر النقص الكامن فى تكوينه وظهر مبكراً فى عجزه عن المشى قبل الرابعة، وتواترت شائعات من المطلعين على أخباره ومنهم «تروتسكى» بأنه مات مسموماً ولم يمت مباشرة بفعل الفالج الذى كان يعاوده فى السنة الأخيرة، وقيل إن «ستالين» هو الذى عجل بسمه خشية على مركزه فى الحزب بعد وصية «لينين» لأعضاء اللجنة العليا بالتخلص منه من «ستالين» وإسناد سكرتارية الحزب إلى غيره.
أما شخصية «ستالين» فذات طبيعة تقاربت فى تفسيرها أقوال الشيوعيين وأعداء الشيوعية، وتكررت فى أعمالها دلائل الإجرام. وعنه قال «لينين» فى رسالته إلى لجنة الحزب العليا إنه فظ خبيث دساس، لا تُؤْمن عاقبة كيده على الحزب والمذهب.
وشهادة «لينين» على صاحبه أخف وطأة على «ستالين» من شهادة الزعماء الذين خلفوه وشاركوه فى الحكم، ومنهم عرف العالم بعد ثلاث سنوات من موت «ستالين» أنه «كذاب سفاح يهدر الأرواح بالمئات ويسخر مناصب الدولة الكبرى لخدمة شهواته وشذوذه الجنسى الذى اتسم بجنون القسوة أو السادية، وأجمعوا على أنهم كانوا يخرجون من عنده وهم لا يصدقون بالنجاة من شطحاته!». والثابت فيما يورده العقاد، أن زعماء الحزب الذين قتلهم «ستالين» فى محاكماته لا يقلون عن ثلاثة أضعاف الزعماء الذين قتلهم جميع القياصرة، وأن ضحايا عهده بلغوا الملايين من القتلى والسجناء والمنفيين والمفقودين. أما نقص التكوين فى «ستالين» فهو حقيقة لا تحتاج إلى إثبات، فقد رُفض تجنيده لعدم اللياقة الطبية. أما إجرامه المطبوع فثابت من دوائر الحزب ومن دوائر الحكومة، وبلغ من استخفافه بالأرواح أنه ألقى على مركبة البريد قذيفة جهنمية دون أن يحفل بأرواح الأبرياء الذين كانوا بالمركبة طمعاً فى المال المحمول فيها لصرف مرتبات الموظفين. وأما الطامة الكبرى بين وصماته، فكانت مجهولة قبل انفجار السخط عليه من أتباعه وخلفائه، حيث افتضح أنه كان جاسوساً قيصرياً إلى ما قبل سقوط القيصرية بقليل، وأن الذين عُرِفَ أنهم عرفوا هذا السر المرهوب قد هلكوا جميعاً فى محاكمات ملفقة!
وحينما جاء دور المحاكمات أو التطهيرات، أمر «ستالين» صنيعته «بريا» بأن يستخرج من الأضابير وثائق تدين الزعماء المدفوعين إلى المحاكمة، فإن لم يجدوا فعليهم أن يستخرجوا أوراقاً تدين أناساً آخرين لتهديد أصحابها وإرغامهم على الشهادة التى تدين الزعماء المغضوب عليهم!
وقد اطلع أحد رجال «بريا» عفواً أثناء البحث على صور ورسائل مكتوبة بخط «ستالين» تكشف سره الرهيب، فارتاع الرجل وأخفى ما رآه، إلاَّ عن رئيسه السابق الذى يطمئن إلى شرفه ونزاهته: المارشال «توخاشفسكى» الذى ذهب فيما بعد ضحية لهذا السر القاتل، وذهبت معه فئة خاصة من زملائه اطلعوا على الأوراق وقيل إنهم اقتنعوا بالانقلاب العسكرى على سيطرة الطاغية، فتسرب سر المؤامرة، ولم يمهلهم الطاغية إلاَّ ريثما يهتدى إلى موضع الأوراق التى يقال إنه لم يهتد إليها، وقد عاش من العارفين بهذا السر اثنان، عاشا فى خارج روسيا: «إسكندر أورلوف» صاحب كتاب جرائم ستالين، و«إسحق ليفين» واضع إحدى ترجماته المتداولة، وأخفى الوثائق التى وصلته بخزانة أحد المصارف المجهولة، أما «أورلوف» فقد أذاع على حدة خبر وثائقه بعد انتهاء الحملة على ستالين من جانب الكرملين، وأوجز القصة فى مقال نشره فى مجلة لايف عدد مايو 1956 أفشى فيه ما كان يومئ إليه خوفاً من مطاردة ستالين وإشفاقاً على من بقى من ذويه فى البلاد الروسية!
يوضح الأستاذ العقاد لماذا أورد خبر خدمة «ستالين» للجاسوسية القيصرية، فيعزو إيراده لكون المعلومات عنه كانت مجهولة، وأوردها رغم أن خبرها لا يزيد من العلم بخلائق هذا الرجل.. ذلك أن خلائق الإجرام والغدر، والخبث وتسخير المذهب فى خدمة الشهوات والأهواء وقائع متواترة فى تاريخه قلما تحتاج إلى إثبات!
ومحصول الدعوة، ومن يدعو إليها ومن يلبيها، أنها فيما يرى داء يعالج معالجة الأدواء ويُحْمى منه الأصحاء.. وقلما يقع فيه الصحيح إلاَّ وهو شبيه بمرضاه فى عرض من الأعراض. وظنى أن هذا بدوره غلو نابع عن كراهة الأستاذ العقاد لكل ما يمكن أن يمس الكرامة والحرية الإنسانية ويؤدى إلى الاستبداد.