المبادرات الصادرة عن مصر، سواء من القيادة السياسية أو على الصعيد الدبلوماسى مؤخراً تجاه العراق، تحديداً منذ إعلان تكليف رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمى برئاسة الوزارة، تحمل إشارات هامة، ليس فقط فى إطار علاقات الدولتين.. بل تمتد دلائلها لتشمل المنطقة العربية. هذه الخطوات الإيجابية الداعمة لعودة دور العراق الطبيعى والتاريخى كجزء مؤثر فى المنطقة بدأت مع لقاء الرئيس السيسى بالكاظمى أثناء مشاركة الثانى فى المائدة المستديرة التى استضافها جهاز المخابرات العامة خلال شهر أكتوبر الماضى فى القاهرة. استعراض تصريحات الرئيس السيسى السابقة عن الشأن العراقى أكدت الاهتمام والفهم العميق لكل تعقيدات المشهد على أرض الواقع، مع التأكيد على أهمية توصل العراق إلى ما يضمن استقراره السياسى والأمنى بعيداً عن التدخلات الإقليمية، ما يعكس إرادة الشارع العراقى كما عبّر عنها اندلاع موجات الغضب الشعبى والتظاهرات السلمية فى جميع مدن العراق منذ شهر أكتوبر الماضى.
منصب رئاسة جهاز المخابرات فى العراق له ضوابط خاصة دعمتها جهود مستميتة بذلها الكاظمى للحفاظ على استقلالية هذا الجهاز وحمايته من التدخلات الإقليمية بعدما تغلغلت داخل مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة، بالتالى لم يكن تلقى الرئيس العراقى برهم صالح أول مكالمة من الرئيس السيسى للتهنئة باختيار رئيس وزراء يُنهى حالة فراغ سياسى امتد لأشهر فى العراق مجرد صيغة ضمن الصيغ البروتوكولية المعتادة.. إذ تلتها عدة خطوات، أبرزها اتصال هاتفى آخر بين الرئيس السيسى والكاظمى، ثم زيارة السفير المصرى فى العراق علاء موسى لرئيس الوزراء التى نقل خلالها دعوة رسمية من الرئيس السيسى لزيارة مصر.
القيادة السياسية فى مصر كررت دعمها مراراً لدور الجيش العراقى فى الحرب التى خاضتها قواته -ومازالت- ضد تنظيم داعش، تحديداً مع كل المخاوف التى أشار لها عدد من ساسة دول أوروبا وأهم مراكز الأبحاث السياسية والأمنية حول تزايد فرص عودة هجمات التنظيم الإرهابى داخل العراق نتيجة أخطاء النخب السياسية الفاسدة التى توالت على العراق منذ 2003. الإشكالية الأولى تمثلت فى عدم التفات الحكومات السابقة إلى ضرورة استكمال الانتصار الأمنى ومواكبة تحرير الأراضى بانتصار سياسى يفرض عدم ترك هذه المناطق عرضة للفراغ نتيجة إهمال الحكومات السابقة ملف إعادة تعمير المناطق المحررة وتأهيلها لعودة سكانها المهجَّرين من المخيمات المنتشرة فى مدن العراق. انسحاب التنظيم الإرهابى ترك هذه المدن «أرضاً محروقة» تفتقد المرافق الخدمية وكل مقومات البنية التحتية، فى المقابل زاد من تفاقم الوضع على أرض المعارك ممارسات بعض الميليشيات التى لم تُخفِ إعلان ولائها للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية على خامنئى وليس لرئيس وحكومة العراق، وما تركته من ممارسات طائفية أو محاولات تغيير التوزيع الديموغرافى لهذه المدن.
الكاظمى الذى استهل مهام منصبه بتحركات وإجراءات تؤكد فتح صفحة جديدة فى كل الملفات المعقدة تختلف كلياً عن تلك التى كانت سائدة منذ 2003، طرح أيضاً شقاً اقتصادياً مهماً خلال لقائه السفير المصرى حول ضرورة ترسيخ التعاون المصرى - العراقى عبر الاستفادة من الخبرات المصرية فى مجالات الكهرباء والزراعة، بالإضافة إلى تسهيل عمل الشركات الاستثمارية المصرية فى العراق. اقتصادياً، تمارس أطراف إقليمية تحديداً إيران وتركيا كل الضغوط، حتى عبر فتح منافذ تهريب بضائعها المختلفة عبر شمال العراق، بحكم حجم تأثيرها السياسى والاقتصادى لكى تُبقى السوق العراقية حكراً على منتجاتها وشركاتها رغم رداءة المستوى مقارنة بالصناعة المصرية. أخيراً، رسائل مصر جاءت فى توقيت مثالى لدعم عراق يسعى لتأكيد مساره العربى فى ظل ما يحيطه من تحفز إقليمى.