فكل الذين فقدوا السلام مع أنفسهم كان ينقصهم شيئان مهمان.. بتلك العبارة كنت قد ختمت مقالى السابق، واليوم نستكمل معاً ما كنا قد بدأناه. ولعل الشىء الأول هو: فكرة الشعور بالخطر قبل وقوعه، وأما الشىء الثانى فهو: فكرة الصدق وبخاصة الصدق مع النفس فى لحظات الخطر تحديداً أو عندما تظهر إشاراته الأولى. ولو تأملنا قليلاً لوجدنا أن شعور الإنسان بالخطر فى الوقت المناسب إنما هو بمثابة طوق النجاة لمن ينشد السلام فى حياته، سواء مع نفسه أو مع العالم من حوله، ولمن يريد ألا يفقد فرصته فى النجاح، وأيضاً لمن يسعى إلى تحرير حياته من شعور الندم ومرارته والبكاء على اللبن المسكوب. ولقد كانت تلك هى الفكرة المحورية التى دارت حولها رواية (آه منا... نحن معشر الحمير) للكاتب العالمى المبدع «عزيز نيسين»، وحول مسألة «الشعور بالخطر» تعالوا بنا معاً نستعرض بعضاً من سطور هذه القصة الساخرة المترجمة إلى العربية، وسنتوقف أيضاً ما بين سطورها.
ففى بداية الرواية -استكمالاً لما كنت قد بدأت به مقالى السابق- يقول الكاتب على لسان حمار يتحدث إلى أحد البشر قائلاً (.... ولكن ما هو النهيق؟؟؟... إنه عبارة عن مقطعين من مقاطع الأصوات: (هاق.. هاق) أحدهما غليظ والآخر رفيع، وهما يصدران منا الواحد بعد الآخر، هذا هو النهيق الذى بقى فى لغتنا: اللغة الحمارية، لكن كيف تحولت هذه اللغة من لغة موسيقية، حتى أصبحت بهذا الشكل الذى يعتمد على النهيق؟.. ألا يهمكم معرفة هذه الحكاية وكيف حدثت؟.. حسناً سوف أرويها لكم باختصار، فقد سيطر الخوف على ألسنتنا، وذهب بعقولنا، وبسبب الخوف... أصبحت لغتنا هى لغة الحمير... أى النهيق.
فماذا يقول (الحمار) فى تفسير تحوله من موسيقار كما كان فى الأصل... إلى حمار فقط كما هو الآن؟؟؟.
ولعل هذه القصة برغم بساطتها إلا أنها تكشف لنا عن معنى إنسانى عميق وهام جداً، ألا وهو أن كل إنسان بل كل كائن حى يعيش على الأرض، يمتلك (بالفطرة) قدرة على الشعور بالخطر، وكلنا يدرك تماماً إن لم يكن جرب وذاق من الأخطار التى توجد بكثرة حولنا فى هذه الدنيا سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة إلى الدول، فالحياة من بدايتها إلى نهايتها إنما هى معركة متصلة، ويقول الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم (لقد خلقنا الإنسان فى كبد) صدق الله العظيم، ولا يستطيع أن يحقق الإنسان نجاته إلا إذا قام بالعمل على تنمية شعوره واستشعاره للخطر بداخله، ولا يعنى ذلك أبداً أن يعيش الإنسان خائفاً مذعوراً طوال الوقت على الإطلاق، ولكن الشعور بالخطر الذى أعنيه هو على العكس تماماً، فهو الذى يحقق السلام للنفس. لماذا؟ لأنه يغلق أبواب العواصف قبل أن تهب علينا، والذين لا يستفيدون من هذا الشعور مبكراً أو فى الوقت المناسب يتعرضون للأزمات والمصائب، لأن تجاهل الشعور بالخطر يجعل الخطر يقترب منا أكثر وأكثر حتى يتوحش وينشب أظافره ومخالبه فينا، الأمر الذى يقضى على السلام الذى نحلم به.
ولحديثنا بقية.