لم يستطع «بيل جيتس» بكلِّ ما يملك ويدير، ولم تستطع شركة مايكروسوفت العملاقة، ولا مؤسسة «بيل وميليندا جيتس» الثريّة أن تواجه حملة وسائل التواصل الاجتماعى.
لقد انتصر «بيل جيتس» نصف قرن وانهزم فى نصف ساعة. وحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن أكثر مقاطع «يوتيوب» المرتبطة بالبحث عن اسم «بيل جيتس» باللغة الإنجليزية هو ذلك الذى يتحدث عن جريمته التى يخطّط لها.. وهى زرع شرائح إلكترونية فى اللقاح الذى يجرى إعداده لمكافحة فيروس كورونا!
كان «بيل جيتس» رمز الحداثة، فأصبح عنوان المؤامرة، وكان رمز الثراء القائم على العلم، فأصبح رمز المال القائم على القتل. من المثير للغاية أن عدداً من الإعلاميين الأمريكيين راحوا يروّجون لذلك، وأن عدداً لا نهائى من الأشخاص داخل وخارج الولايات المتحدة راح يدعم ذلك على صفحاته وحساباته وقنواته.
وقد كان من نتيجة ذلك أن أجاب (45%) من الأمريكيين الذين جرى استقصاء رأيهم بشأن تعاطى لقاح كورونا فى حال الوصول إليه.. بأنهم متردّدون، ولم يقرروا بعد، وأنهم قد لا يفعلون.
فى مصر والعالم العربى انتشرت رسائل كثيفة العدد على تطبيق «واتس آب».. كلها تحذّر من بيل جيتس وشرائحه الإلكترونية، وكلها تتحدث عن انكشاف المؤامرة أخيراً، وأن بيل جيتس قد ظهر على حقيقته الدموية، فى القتل باللقاح، أو المراقبة الشاملة والتنصّت عبر الشريحة المغموسة. وقد انتهت الرسائل جميعها بالدعوة إلى مقاطعة بيل جيتس وأمصاله ولقاحاته.. ذلك أن «اللقاح فيه سمّ قاتل»!
إن قراءة هادئة لاتهامات بيل جيتس ربما تنتهى إلى نتائج مغايرة، ذلك أن إعمال العقل والمنطق وتفكيك المقولات والافتراضات.. سيقود إلى أن «بيل جيتس» يواجه حرباً ذات طابع سياسى، وقد بدأت فى اللحظة التى أعقبت انتقاد بيل جيتس لأداء الرئيس ترامب فيما يخصّ سياساته الكورونيّة.
ويمكننا عرض محاور الحملة الدولية على بيل جيتس داخل وخارج أمريكا فى الاتهامات السبعة التالية:
أولاً: بيل جيتس يُجرى تجارب لقاح كورونا على الأفارقة.. حيث انتقدت صحيفة جنوب أفريقية معروفة «مؤسسة جيتس الخيرية» بأنها فى دعمها للوصول إلى لقاح، أجرت تجارب على البشر فى جنوب أفريقيا، كأنهم فئران فى المعامل. لكن الصحيفة عادت واعتذرت، وقالت إن الخبر غير صحيح. أمّا رئيس جنوب أفريقيا فقد أشاد بالدور الكبير لمؤسسة جيتس الخيرية فى بلاده.
ثانياً: بيل جيتس قدم رشوة لبرلمان نيجيريا. يقوم الاتهام على أن بيل جيتس دفع (10) ملايين دولار كرشاوى لأعضاء برلمان نيجيريا من أجل فرض لقاح كورونا. وقد أطلق هذا الاتهام عددٌ من أعضاء الأحزاب المعارضة. وهو اتهام لا يقوم على منطق، ذلك أنه لا يوجد لقاح لكورونا حتى يتم عمل تشريع لفرضه.
وحقيقة الأمر -حسب مؤسسة جيتس- فإن المؤسسة تدعو إلى فرض اللقاح فى أفريقيا. ولكنه ليس لقاح كورونا، وإنما اللقاحات المعتمدة منذ سنوات طويلة ضد الحصبة والجدرى وشلل الأطفال وغيرها، حيث لم تتمكن المؤسسة من تقديم اللقاحات إلى بعض المناطق النيجيرية لأسباب مختلفة. ولقد كان لمؤسسة جيتس الخيرية دور مهم فى القضاء على الجدرى وشلل الأطفال فى العالم على نحو يدعو إلى التقدير والاحترام.
ثالثاً: بيل جيتس يريد خفض السكان. ويقوم هذا الاتهام على أن بيل جيتس تحدث ذات مرة عن ضرورة ذلك الخفض. وهو اتهام غير صحيح، حيث كان جيتس يتحدث عن خفض معدل النمو السكانى وليس خفض عدد السكان. والفارق هائل بينهما. فخفض السكان يعنى قتل بعضهم، لكن خفض معدل النمو يعنى تنظيم الأسرة. وكان جيتس ومؤسسته يتحدثون عن تنظيم الأسرة لا قتلها.
إن زوجة بيل جيتس «ميليندا» هى مسيحية كاثوليكية، وتحرم المسيحية تنظيم الأسرة، وقد اتصل بها «بابا الفاتيكان» من أجل دفعها لطريق آخر، غير أنها رأت عكس ذلك، ومضت فى طريق دعم تنظيم الأسرة فى أفريقيا الفقيرة.
رابعاً: بيل جيتس يخزّن الطعام فى منزله استعداداً للمؤامرة.. وهو اتهام رائج، لكنه يثير الضحك ولا يستدعى النقاش.
خامساً: بيل جيتس يموّل مجلة «لانسيت» الطبية. ويقوم هذا الاتهام على أن بيل جيتس يدعم هذه المجلة الطبية المرموقة التى تصدر من لندن، وذلك لحشد الأبحاث الخاصة بالأمراض المعدية، واستثمارها للحصول على مليارات، وكذلك احتكار لقاحاتها وأمصالها، وهو ما لا يمكن اعتباره اتهاماً، ذلك أن هناك العديد من مجلات علم الأوبئة المرموقة، وأن جميع الباحثين فى العالم لا تحظى أبحاثهم بالاهتمام إلّا حال نشرها فى دوريات علمية محكمة، وأن الحصول على براءة اختراع أو استثمار نتائج أىّ بحث هو أمر علنى ومعروف، وله طرقه وآلياته، ولا يوجد ما تختص به مجلة «لانسيت» أو بيل جيتس من الطرق القانونية للنشر أو حق الاستغلال ما يختلف عن غيرها.
سادساً: بيل جيتس تنبَّأ بالوباء عام 2015.. وعلى الرغم من وضوح الأمر فى أن «جيتس» تنبأ بذلك فقط، فإن الاتهام قد ذهب إلى أنه قد شارك فى تدبير الأمر!
إنّ توقع بيل جيتس باحتمال مواجهة البشرية لفيروس خطير يكون معدياً لملايين الناس ليس انفراداً فى التوقع، بل إنه ضمن بديهيات علم الفيروسات، ولقد تحدث ساسة وعلماء عن ذلك قبل جيتس بسنوات، ولا يشكّل التنبؤ بفيروس مدمّر إعجازاً علمياً، أو سبقاً فريداً.
لقد تحدث جيتس عن ذلك بعد مشاركته فى مقاومة وباء إيبولا فى غرب أفريقيا، واندماج مؤسسته فى مقاومة الأوبئة، وتخصيص مبالغ كبيرة من بين الـ(50) مليار دولار التى تمثل حجم أموال المؤسسة الخيرية الأكبر فى العالم لأجل ذلك الغرض.
ويتذكر المصريون -والعالم بأكمله- ذلك الرثاء الشهير من بيل جيتس للعالم المصرى العالمى البروفيسور «عادل محمود». وبينما لم يعلم المصريون الكثير عن حياة الراحل الكبير ولا عن وفاته.. قال بيل جيتس: «إن العالم المصرى الدكتور عادل محمود هو واحد من أعظم المبدعين فى اختراعات اللقاحات فى عصرنا، لقد أنقذ حياة عدد لا يحصى من الأطفال».
سابعاً: بيل جيتس يريد زرع شريحة إلكترونية فى اللقاح.. إن هذا الاتهام هو جوهر الاتهامات للملياردير الأمريكى بيل جيتس. وهو اتهام لا يصمد أمام المنطق، ذلك أن فكرة زرع شرائح إلكترونية داخل الإنسان هى فكرة قديمة تقوم على أساس أن تكون هى البطاقة الإلكترونية للإنسان. وقد لقيت جدلاً واسعاً، ولا علاقة لها بكورونا الذى جاء بعد قرابة عشرين عاماً من هذا التفكير. وحتى بالنسبة لذلك فهو أمر معروف ومطروح للنقاش من دون جديد. أمّا إخفاء شريحة فى دواء فهو أمرٌ لا أساس له. وفى حال التوصل إلى لقاح لكورونا فإن أى دولة مهما كان تواضعها يمكنها أن تدرك إذا ما كان اللقاح يحتوى على شريحة أم لا.
يضاف إلى ذلك أن هناك (115) فريقاً علمياً عالمياً يتسابق لأجل اللقاح، وأن روسيا والصين قد أعلنتا أنهما على وشك الوصول، وقد دعت منظمة الصحة العالمية إلى إلغاء الملكية الفكرية للقاح بحيث يحق لأى دولة تصنيعه، ثم إن دولة كبرى مثل الهند لا تعترف بالملكية الفكرية فى الدواء على وجه العموم.
والحاصل من ذلك كله أن بيل جيتس أو غيره لا يمكنه زرع شريحة فى لقاح، ولا حتى احتكار اللقاح. وإن ما يشغل العالم حقاً ليس ذلك التفكير غير العلمى بشأن اللقاح والشريحة، بل هو الوصول إلى اللقاح فى وقت مناسب. وتفادى ذلك الاحتمال المروّع، وهو عدم الوصول إلى ذلك أبداً.
لقد توازت الحملة على بيل جيتس مع اتصال شخصيات دولية عديدة به لبحث مستجدات اللقاح فى الفرق العلمية السبع التى يدعمها. وكان من بينهم رئيس وزراء باكستان ورئيس كوريا الجنوبية.
إن هذه السطور ليست دفاعاً عن بيل جيتس، ربما كان لدى الملياردير ما يُسىء إليه وينال منه، وربما كانت لدى مؤسسته ما يوجب النقد والهجوم، لكن الانجراف فى صراع حزبى ومعارك سياسية من دون إدراك خريطة الصراع الداخلى فى الولايات المتحدة.... هو أمر يقود إلى عدم الموضوعية.
لا تهدف هذه السطور إلى منع الانتقاد أو حتى المواجهة مع ما يثبت فساده، بل تهدف إلى عدم الهجوم من دون دليل، أو نشر المعرفة الزائفة بثقة كبيرة ويقين تامّ على أنها المعرفة الصحيحة. إنها سطور تدعو للعلم، وتنتصر للمنطق، وتدعو إلى العدل.
إن المعرفة الزائفة هى خطر حقيقى على الأمن الإنسانى.. الثروة هى المنطق.