اسم جميل ورسالة أجمل لم ينجح يوسف معاطى بهما أن يقدم «الأفضل»، وكأنه على حد قول الناقد الفنى الأستاذ ضياء أبواليزيد، متخصص فى تقديم الأفكار الجميلة بشكل أقل من قيمتها الحقيقية.
لكن ما علينا، فموهبة النجم محمد هنيدى التى تستحق عن جدارة وصف الاستثنائية قدمت وجبة شهية، ومعظم فريق العمل كان أداؤهم طازجاً، أما سميحة أيوب فكان أداؤها متميزاً أشد التميز. المفارقة التى بنى عليها الفيلم هى الصراع فى المجتمع المصرى بين الفوضى والنظام، لكن ما حدث على الشاشة بالفعل هو صراع بين الفوضى والقسوة، وهى مفارقة لا أدرى هل انتبه إليها معاطى وهنيدى أم لا؟
والفارق الذى يبدو باهتاً بين القسوة والنظام تجعل رسالة الفيلم عرضة للضياع، فالخيار ليس دائماً بين التعبير عن البهجة بالاستماع إلى الغناء الهابط وبين مارش جنائزى فى حفل زفاف، وإلا فإن البعض سيكون محقاً إذا رفض الخيارين معاً.
والنموذج الذى جسده باسم السمرة -باقتدار شديد- نموذج يهدد حياتنا جميعاً بالفعل، ومن العشوائيات خرج عشرات الآلاف مثله لينشروا الخراب فى حياتنا اليومية، وهو خراب تبدو ملامحه أكثر وضوحاً فى لحظة البهجة، حيث أصبحت حفلات الزفاف فى الكثير من المستويات والطبقات باعثة على القرف الشديد، وتسللت إليها كالوباء أغنيات منحطة بدرجة غير محتملة، فضلاً عن أشكال من التعبير بالرقص -وبخاصة من الرجال- فيها فحش لا أفهم أبداً كيف أصبحنا نتسامح معه كمعطى بصرى أصبح ينتقل فى المجتمع كله ويسرى فعلاً «سريان النار فى الهشيم».
والمشهد الأكثر إيحاء فى الفيلم -فيما يتصل برسالة الفيلم الاجتماعية- استعانة «تيتة رهيبة» بالكلاب البوليسية فى مواجهة السنج والمطاوى لحسم الجدل حول ما يليق سماعه فى حفل الزفاف. وكأن يوسف معاطى يقرع جرس إنذار من أن الانحطاط أصبح يفرض نفسه علينا بــ«المطاوى»، وقد لايكون أمامنا حل لإنقاذ حياتنا سوى الاستعانة بــ«قوة النظام»، وهو تساؤل مشروع يحتاج نقاشاً جاداً فى مواجهة ثقافة الـ«دى جى» والأفراح الشعبية التى أصبحت أقرب إلى عربات نشر الكوارث الأخلاقية والاجتماعية، فى مجتمع لم يملك المناعة، وحتى الآن لا يملك الهمة لكى يقول لا لهذه الكارثة. والرمزية فى اختيار جنسية «تيتة رهيبة» (ألمانيا) واسم أحد الكلبين اللذين استعانت بهما لحسم الصراع مع الفوضى عدة مرات (جوبلز) له دلالة.
لكن الحل قد لايكون فى النموذج الألمانى -كرمز للصرامة واحترام النظام- ولا فى جوبلز كرمز للنازية التى أعادت صياغة المجتمع الألمانى بقسوة. والصراع هو فى الحقيقة بين «المركز» و«الأطراف»، بين المدينة التى كانت حتى انقلاب يوليو المشئوم رمزاً للتأنق والذوق الراقى وبين الأحياء العشوائية التى أتت بأسوأ ما فى الريف لتجعله يتحكم فى كل شىء.
وقد ذهب كثير من الباحثين الذين حاولوا تلخيص تجربة نخب التحرر الوطنى العربية التى حكمت الدول ذات النظام الجمهورى إلى أن هذه النخب -فى معظمها- كانت ذات ثقافة ريفية ضحلة وكانت تنظر إلى المدينة بإحساس عميق بالنقص، فقررت «تقزيم» المدينة، ومن هنا أصبحت القاهرة -بعد أن كانت باريس الشرق- قرية كبيرة تحيط بها نطاقات من الريف العشوائى.
ورغم تضخم أعداد السكان فإن ما حدث قتل -بلا رحمة- روح المكان، واقرأ عن الإسكندرية قبل الخمسينات وشاهد مأساتها بعدها، لتعرف كيف خسرت مصر كثيراً باغتيال المدينة وأخلاقها ورقيها وصعود الريف الخشن حتى طغى على الفن والثقافة، وقديماً كانت المدينة بالنسبة له نموذجاً ومصدر إلهام فأهدى إليها خيرة أبنائه، مبدعين ومثقفين وأكاديميين، وهذا ببساطة لأنهم كانوا يعتبرون «التمدن» نوعاً من الترقى الاجتماعى، أما عندما أصبحت عبارة الفخر الأكثر تردداً على الألسنة: «إحنا ناس فلاحين»، فقد كانت النتيجة الطبيعية أن المدينة تذبل خوفاً وحياء وخجلاً أمام طوفان من السلوكيات والأذواق و..... جعل حصيلة قرون من التمدن والتهذيب يسقط صريعاً بمطواة قرن غزال!
وفى الحقيقة فإن يوسف معاطى ومحمد هنيدى وباسم سمرة قد نجحوا فى تلخيص المأساة فى المشاهد القصيرة المتكررة التى أصبح فيها بطل الفيلم (رمز المدينة فى مسالمته) مجرد خادم لنزوات شقيق خطيبته الذى يدير كل شىء بالمطواة (باسم سمرة)، وقد كان هنيدى يردد بانكسار معبر جداً عبارة أخشى أن تصبح كل ما بقى لأبناء المدينة ليرددوه وهم يطأطئون رؤوسهم أمام الفوضى الكاسحة:
مسا مسا يا إبراهيم!!