من جديد، أثار مقتل الشاب الأمريكى الملون «جورج فلويد» موجة من الاحتجاجات على العنصرية التى لا تزال تطبع سلوك نسبة لا يستهان بها من موظفى إنفاذ القانون بحق المواطنين والمقيمين الملونين فى الولايات المتحدة الأمريكية التى يعتبرها البعض فى عالمنا الثالث البقرة المقدسة للديمقراطية والحريات وقِبلة حقوق الإنسان.
ولا تشكل حادثة القتل الخطأ هذه المرة خروجاً عن النص، فهى لا تختلف كثيراً عن حوادث مقتل العشرات من الملونين من ذوى الأصول الأفريقية وكذا من ذوى الأصول اللاتينية وفى أحيان قليلة ذوى الملامح الشرق أوسطية، والذين راح أغلبهم ضحية مخالفة التعليمات الشرطية خلال توقيفهم للاشتباه، خاصة أثناء قيادة سياراتهم، فمجرد عدم الالتزام بوضع اليدين بصورة ظاهرة على مقود السيارة أو الخروج منها دون أمر واضح يشكل سبباً فى إطلاق الرصاص على المشتبه به.
ولقد برأت عشرات المحاكم الأمريكية عناصر الشرطة المتهمين فى مثل تلك الحوادث، ولم تعبأ هيئات الادعاء العام وبالمثل هيئات المحلفين بإقدام رجال الشرطة على استهداف المشتبه بهم بالرصاص الحى فى الجزء الأعلى من الجسد، وهو ما يعد وفقاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان استخداماً للقوة المميتة فى غير محلها، حيث لا يتوافر شرط استخدامها المتمثل فى تعريض حياة أو سلامة رجال الشرطة للخطر الداهم.
زودت المؤسسات العدلية فى الولايات المتحدة الأجهزة الشرطية بأدوات سيطرة متنوعة على مر العقدين الأخيرين مثل الصواعق الكهربائية وعبوات الغاز بهدف تفادى استخدام القوة المميتة والرصاص الحى على وجه التحديد فى غير ضروراتها، وتبنت القليل من الولايات قوانين محلية تحولُ دون استخدام القوة المميتة وغير المتناسبة فى غير الضرورات، لكن ذلك لم يكن كافياً فى عديد من الحالات التى برأت فيها المحاكم رجال الشرطة، وجميعها كانت عن حوادث قتل لملونين من غير أصحاب البشرة البيضاء.
يرزح نحو ٤٥ مليون أمريكى فى عداد المشردين دون مأوى، ويشكل الملونون الأفارقة واللاتينيون غالبيتهم الساحقة، ويشكلون القسم الأكبر من الفقراء والباحثين عن عمل والمسجلين فى قوائم إعانة البطالة. لا يحولُ ذلك دون الإشادة بعديد من الأحكام القضائية فى الولايات المتحدة، وخاصة أحكام المحكمة العليا التى سدت النقص الفادح فى وعى المشرِّع الأمريكى وإدراك صانع القرار التنفيذى للمعنى السليم للديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث يقتصر الإيمان بحقوق الإنسان فى وعى المجتمع الأمريكى على حريات التجمع والخطابة (التعبير) والدين اتساقاً مع التعديل رقم (١) من التعديلات العشرة الأولى من الدستور الأمريكى الصادرة فى منتصف القرن التاسع عشر، وهو نقص الإدراك الذى لا يزال يحكم منظور تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوى عن حقوق الإنسان فى العالم، الذى ينتقد سلوك الغير تحقيقاً لأغراض سياسية محددة، ولا يتناول الشأن المحلى الأمريكى.
ورغم مسيرة النضال الناجح التى خاضها الأفارقة الأمريكيون منذ زمن الرق عبر الأطلنطى إلى يومنا هذا، فالمسافة لا تزال جد بعيدة لبلوغ مقصدها فى إنهاء ميراث التمييز العنصرى الذى يحكم العلاقات فى المجتمع الأمريكى، ولا تزال له معاقل شامخة فى العديد من ولايات الجنوب الأمريكى.
ومع كل النجاح المذهل للملوّنين فى مجالات العلوم والفنون والرياضة وأيضاً السياسة، وبدون تعديلات تشريعية جدية على المستوى الاتحادى تتبنى قواعد الاشتباك وأصول المعاملة المتعارف عليها فى القانون الدولى لحقوق الإنسان، سيكون على غير أصحاب البشرة البيضاء فى الولايات المتحدة أن يعبروا فوق اختبار التفوق العلمى والمهنى ويغادروا الحارات والأزقة التى وُلدوا وتربوا فيها وأن يرتدوا البذلة الكاملة مع رابطة العنق أو الملابس الأغلى المميزة من الماركات الأشهر كى يتفادوا الوقوع ضحية للقتل على يد الشرطة لمجرد الاشتباه.