سمعنا فى الأفلام العربى، وربما فى الحقيقة، من جامعى القمامة، أن بمقدورهم التعرف على المنازل والأسر التى يتعاملون معها من خلال «قمامتهم».. فمثلاً هل هم أغنياء أو فقراء، يأكلون خضراوات طازجة أو معلبات، يشربون عصائر أو مياهاً غازية، وربما نوع ملابسهم وأجهزتهم المنزلية، وغيرها من المعلومات عن نمط حياتهم.. لا أبالغ عندما أقول إن مياه الصرف الصحى التى تخرج من منازلنا وتنتقل فى شبكة الصرف تحت الأرض تحمل معلومات أكثر بكثير مما تحمله القمامة... ليس فقط فى كم المعلومات، ولكن فى دقتها وشدة خصوصيتها، بالإضافة إلى إمكانية استخدام مياه الصرف وما تحتويه من مخلفات آدمية، لتحديد أنواع الغذاء والمواد المستخدمة فى الأغراض المنزلية المختلفة، يمكننا أيضاً التعرّف على صحة الأفراد أو الأمراض التى يعانون منها من خلال تحليل الفيروسات لمخلفاتهم وهو ما يعنينى فى هذا المقال.. وبما أننى متخصّص فى مجال المياه، ولست متخصّصاً فى أى من المجالات الطبية سيقتصر مقالى على النواحى الفنية للمياه واستخدامها لدعم القطاعات المختلفة للدولة، خاصة فى مثل هذه الأزمات التى نعيشها حالياً.
لنا أن نتخيل أن مياه الصرف هى كمية من المعلومات، وأن كل فرد منا يرسل معلومات عنه خارج المنزل من خلال مياه الصرف والمياه التى يتم تجميعها لكل عمارة أو مبنى تحتوى على معلومات عن كل من يسكن ويستخدم المياه فى هذا المبنى، وماسورة الصرف الرئيسية تحمل معلومات عن كل من يسكن بالشارع والماسورة الأم للمنطقة بها معلومات تخص كل من فى المنطقة، وهكذا حتى تصل مياه الصرف إلى محطة المعالجة التى تجمع المياه من حى كامل أو أكثر.. معنى ذلك أن شبكة الصرف فى الحقيقة يمكن أن نعتبرها «شبكة معلوماتية تحت الأرض».
أى نوع من الفيروسات يحمله أى شخص سوف ينتقل منه إلى مياه الصرف قبل أن يذهب الشخص نفسه للتحليل الطبى، وربما قبل أن يشعر بالمرض أو تظهر عليه أعراضه.. السؤال المهم فى هذه المرحلة الحرجة التى نعيشها هل يمكن التعرّف على فيروس الكورونا فى مياه الصرف الصحى؟ الإجابة نعم أثبتت أحدث الأبحاث العلمية أنه يمكن التعرّف على فيروس الكورونا فى مياه الصرف من خلال تحاليل التعرّف على الحمض النووى لفيروس الكورونا (RNA). ولحُسن الحظ أن هذه الأبحاث أثبتت حتى الآن أن فيروس الكورونا «الحالى» لا يعيش فى مياه الصرف، لكن يمكن التعرّف عليه وتحديده ويأمل الباحثون فى تحديد نسب الإصابة بالمرض بين الأفراد، فمثلاً إذا تم تحليل عينات المياه من حى معين فيمكننا عن طريق تحليل البيانات تحديد نسبة الإصابة لكل ألف مواطن فى هذا الحى.. وتكمن أهمية استخدام مياه الصرف لتحديد نسبة الإصابات بالكورونا فى ما يلى:
أولاً: نحن هنا لا نتحدث عن استنتاجات أو افتراضات لنسب الإصابة، نحن نتحدث عن «دليل مادى» وإصابات حقيقية بدقة أعلى بكثير من الطرق الإحصائية التى تعتمد فى الأساس على فرضيات ربما تصيب أو تخطئ.
ثانياً: يمكننا تحديد الأماكن الموبوءة على الأقل بأسبوع أو أسبوعين قبل ظهور المرض على الأشخاص.. وربما قبل أن يعلم الأشخاص أنفسهم بأنهم مرضى أو حاملون للفيروس وقبل توجّههم إلى المستشفيات لإجراء التحليل وتكديس المستشفيات بالمرضى.
ثالثاً: للوصول إلى النتيجة نفسها، وهى تحديد المناطق الموبوءة، لا بد من إجراء آلاف التحاليل الطبية، وهو ما يتكلف الملايين.. تحاليل المياه ليست بديلاً للتحاليل الطبية لكنها مكمّلة للمنظومة، بمعنى أنها ستساعدنا أولاً بشكل عام فى أن نحدد الأماكن الموبوءة، التى سنقوم بالتركيز عليها فى الإجراءات الاحترازية، وكذلك فى تكثيف التحاليل الطبية لتحديد والتركيز على الأفراد المرضى القاطنين فى هذه المناطق الموبوءة.
رابعاً: يمكننا متابعة تطور الوباء فى الأحياء المختلفة بشكل أسبوعى أو حتى يومى من خلال إجراء التحاليل اليومية للمياه، التى ستوضح سوء أو تحسن الوضع فى المنطقة الموبوءة.
خامساً: كلما توافرت الإمكانيات تمكنا من إجراء تحاليل مياه صرف أكثر للأماكن الموبوءة، لتحديد الشوارع أو حتى المبانى الأكثر إصابة والتعامل معها مباشرة.
أنا لا أتحدث عن خيال علمى ولا أحلام.. وجود الكورونا فى مياه الصرف حقيقة علمية مثبتة، وتحرك الكثير من الدول لاستخدام مياه الصرف كمصدر للبيانات عن انتشار الكورونا أمر واقع وانتشر فى هولندا، وأستراليا والولايات المتحدة وألمانيا وغيرها من الدول التى تتسابق و«تتفنن» فى البناء على هذه الحقيقة العلمية.. أكرر أننا محظوظون مع فيروس الكورونا الحالى، لأنه غير قادر على العيش فى مياه الصرف، وأن الطرق التقليدية للتطهير فى محطات مياه الشرب كفيلة بالقضاء على هذا الفيروس الخطير، لكن لا أحد يمكنه أن يتنبأ بالكورونا المطور القادم، هل يستطيع العيش فى مياه الصرف؟ ماذا يحدث إذا اختلطت مياه الصرف الملوثة بالفيروس الحى بمياه الشرب؟ هل يمكن للفيروس أن ينتقل إلى الملايين بسرعة يصعب السيطرة عليها؟ هذه ليست أسئلة للباحث المصرى فقط، هذه أسئلة ضمن الكثير والكثير من الأسئلة التى تشغل الباحثين فى هذا المجال على مستوى العالم.
أقترح أن يتحرك علماء المياه مع علماء البيولوجى والطب وغيرهم من الجامعات والمراكز البحثية المصرية للاستفادة من هذه الشبكة المعلوماتية وإجراء أكبر عدد من نقاط أخذ العينات وإجراء التحاليل وربط ذلك بقواعد بيانات لخلق نظام إنذار مبكر قادر على إمداد مؤسسات الدولة من وزارات ومستشفيات وغيرها بالمعلومات المؤكدة عن وجود المرض ومدى كثافته فى الأماكن المختلفة بشكل مبكر يمكن هذه المؤسسات من التحرّك السريع بناءً على معلومات دقيقة.. ربما يعتقد البعض أن البدء الآن فى الإعداد لهذه الأنواع من التحاليل وتجميع البيانات وتحليلها وخلق نظام متكامل لدعم اتخاذ القرار، ولكنى أعتقد أن التحرك الآن إن لم يفد فى هذه الجائحة فسيفيد فى الموجة القادمة للكورونا، التى يؤكدها المتخصصون، أو غيرها من الأوبئة، أو تتبع انتشار المخدرات أو الاستخدامات المستقبلية الكثيرة لهذه البيانات الحيوية.. أثق بعلماء مصر فى الداخل والخارج، أثق أن الكثير منهم، كلٌّ فى مجاله يفكر كيف سنتعامل مع هذه الجائحة وما بعدها.. كل ما نريد هو الإرادة، والإدارة، والعمل الجماعى.
* أستاذ دكتور مهندس فى إدارة المياه بجامعة أخن بألمانيا ومدير قسم اليونيسكو للتغيرات الهيدرولوجية