لم تتوقف منافسة الأطماع التركية منذ 2003 لإيران على بسط نفوذهما السياسى والأمنى داخل العراق، وإن كانت الاعتداءات الأخيرة أظهرت تحول هذا التنافس إلى تنسيق بين الجارتين الإقليميتين مع تزامن العمليات العسكرية التركية والقصف الإيرانى الذى استهدف قرى فى مدينة أربيل بذريعة وجود جماعات كردية إيرانية تتخذ من الحدود العراقية - الإيرانية قواعد لها مثل حزب الحياة الحرة الذى تتهمه طهران بالتبعية لحزب العمال الكردستانى. القراءة السياسية لتزامن هذه الاعتداءات تكشف إشارات واضحة عن سعى الدولتين للضغط على العراق مع انطلاق الحوار بين واشنطن وبغداد تحديداً، وأن الأولى أوضحت أن مساعدتها للعراق فى الدفاع عن سيادته تقترن بعقد اتفاقات تعاون أمنى ملزمة لكلا الطرفين.
منذ عام 1983 بدأت تركيا أولى عملياتها العسكرية بموجب اتفاقية التعاون وأمن الحدود مع الحكومة العراقية التى لم تمنحها حق الوجود الثابت داخل الأراضى العراقية. إلا أنه بعد 2003 أقامت تركيا ما يزيد على 20 قاعدة عسكرية موزعة بين مدن أربيل، كركوك، الموصل التى تقع على أطرافها أهم قاعدة تركية فى مدينة «بعشيقة». الذرائع التركية التى طُرِحت آنذاك هى حماية القومية التركمانية من تنظيم داعش خلال احتلاله الموصل - خصوصاً أن المنطقة لا تعتبر مركز نشاط لحزب العمال الكردستانى. زيف الأكاذيب التركية سرعان ما كشف عن نفسه طوال فترة احتلال داعش للموصل، حيث لم تطلق القوات التركية المتمركزة قريباً رصاصة واحدة ضد العناصر التكفيرية، ولا اتخذت قاعدتها التى تضم أكثر من ألفىْ جندى وعشرات الدبابات والمدافع بعيدة المدى أى إجراء لحماية القومية التركمانية من مذابح داعش.
تفاقم خطورة الاعتداءات الأخيرة مقارنة بالعمليات السابقة أنها تُعد الأكثر عمقاً فى التوغل داخل الأراضى العراقية - مسافة 10 كم لتمتد إلى مدن دهوك وزاخو وجبل سنجار - حيث كان شن العمليات السابقة يقتصر على محيط المناطق الحدودية، كما يعتبر أول هجوم برى لقوات محمولة جواً تنفذه تركيا داخل شمال العراق. «العربدة» التركية التى أضافت انتهاك سيادة العراق إلى سلسلة «مراهقات» عسكرية حين أقحم نظام أردوغان جيشه فى سوريا، الصومال، ليبيا.. بل دفعته للدخول على خط الأزمة الخليجية - الخليجية وإنشاء قاعدة عسكرية فى قطر. المثير للاستنكار أن كذب الشعارات التى أدمنها أردوغان كذريعة لسلسلة انتهاكات سيادة الدول بهدف كسب شعبية متآكلة فى الداخل التركى لم تتعدَّ عناوين زائفة وباطلة بعدما تحول أمام العالم إلى مجرد «ظاهرة صوتية» نشاز.
توسع مناطق الاحتلال التركى بالتأكيد وجد أرضاً خصبة فى ظل تراجع قوة آليات وقرارات المجتمع الدولى أمام محاسبة الدول التى تنتهك سيادة الدول الأخرى، أو تراجع ضوابط القوانين الحاكمة للتحرك الدولى لصالح الاعتبارات السياسية، وقصر اهتمام الدول الكبرى داخل أطر مصالحها فقط، ما شجع المغامرات التركية على تجاوز الاستحواذ على مصادر الطاقة عبر عمليات عسكرية حتى أصبحت احتلالاً سافراً ومعلناً وفق تصريح المتحدث باسم نظام أردوغان «الأتراك سيدخلون أى منطقة عراقية وسيبقون فيها كما يشاءون».
تداعيات الخرق التركى لسيادة العراق بالتأكيد من شأنها التأثير سلباً على مسار العملية السياسية الوليدة وزيادة التحديات والعقبات أمامها.. كما استثارت - على النطاق الشعبى - غضب الشارع العراقى الذى لم يتأخر فى التظاهر؛ رفضاً لانتهاك سيادة أراضيه.. تحديداً فى توقيت توجه العراق نحو بناء عملية سياسية تلبى مطالب مشروعة للشعب الذى اجتاحت مظاهراته السلمية مدن العراق منذ أكتوبر العام الماضى لتطيح بنخبة سياسية فاسدة والتخلص من الآثار الكارثية التى خلفتها سيطرة إيران الأمنية والعسكرية على مقدرات العراق.