قبل أكثر من 20 عاماً، شغلتنى مفارقة غريبة أثناء عملى محرراً برلمانياً فى جريدة «الأهالى»، لاحظت تفاوتاً فى تعامل كلٍّ من الدكتور فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب الأسبق، والمرحوم الدكتور مصطفى كمال حلمى، رئيس مجلس الشورى الأسبق، مع نواب المجلسين، وفيما كان «سرور» يعامل نواب الشعب بصرامة واضحة، و«يقطع الميكروفون» عمن يتجاوز المدة المسموح له بالكلام خلالها «وهى دقيقتان فى معظم الأحيان»، كان «حلمى» أكثر سماحة مع نواب «الشورى»، حتى إن شعر أحدهم بتجاوز المدة المخصصة له وحاول الاعتذار عن الإطالة، كان رئيس المجلس يسارع بتهدئته بعبارة «استمر يا سيادة النائب»، وكان بعض النواب يتمادون فى الحديث لأكثر من 10 دقائق.
أيقنت وقتها أن الفارق لا يعود إلى صرامة «سرور» أو سماحة «حلمى»، لكنه يرجع فى الأساس إلى تركيبة المجلسين.
باختصار كان «سرور» غليظاً مع نواب، يعرف أن من بينهم تاجر الخردة، والسائق، والعربجى، مع احترامى لكل تلك المهن، وبعضهم كان متهماً بتجارة المخدرات، واشتهروا إعلامياً باسم «نواب الكيف»، وكان «حلمى» أكثر حلماً مع نواب غالبيتهم من الخبراء الاقتصاديين، والعلماء فى مجالات الطب والهندسة والزراعة والقانون، ومن بينهم أيضاً أدباء وفنانون ومفكرون، وغيرهم من أصحاب التخصصات اللازمة لإحكام التشريعات، وضمان دقة الهدف من إصدارها.
فى مجلس الشعب، كانت المناقشات أكثر صخباً، وفى مجلس الشورى كانت أكثر عمقاً وبهدووووء.
وأرجعت هذا الفارق فى الأداء بين المجلسين إلى ارتفاع نسبة النواب المعينين فى «الشورى» وكان عددهم 80 نائباً، مختارين بعناية فائقة لسد نقص التخصصات والكفاءات الذى أفرزته الانتخابات، وذلك مقابل 10 نواب فقط يتم تعيينهم فى مجلس الشعب.
وفقاً لهذه الرؤية، أعلنت رفضى لما انتهت إليه لجنة خبراء تعديل دستور 2012 بإلغاء مجلس الشورى، والاكتفاء بمجلس الشعب كغرفة برلمانية وحيدة تقوم بسلطة التشريع.
ووفقاً لتلك الرؤية أيضاً، رحبت بعودة مجلس الشيوخ حسبما جاء فى تعديلات الدستور الحالى، والمؤكد أن الأفضل للسلطة التشريعية -ومن بين مهامها أيضاً الرقابة على أداء السلطة التنفيذية- أن تعمل من خلال غرفتين برلمانيتين (النواب والشيوخ معاً)، بدلاً من غرفة واحدة، مع ملاحظة أن الدول الأعرق ديمقراطياً تأخذ بنظام المجلسين، مثل إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والهند وإيطاليا والبرازيل والأرجنتين، كما أننا وبنظرة سريعة على العالم نكتشف أنه كلما صغرت مساحة الدولة وقل عدد سكانها، فضلت صيغة المجلس الواحد، بينما تفصل الدول الكبيرة نظام المجلسين مع وجود استثناءات بطبيعة الحال.
أتوقع أن يأتى مجلس الشيوخ بأفضل الشخصيات الممكنة، خاصة مع تقسيم الدوائر الجديد الذى يتعامل مع كل محافظة كدائرة كاملة، وهو ما يجعل أفضلية الفوز فى الانتخابات على المقاعد الفردية للمرشحين ممن نطلق عليهم «الشخصيات العامة»، ويصعب المهمة أمام من يعتمد على النفوذ العائلى والقبلى، أو النفوذ المالى فى الدوائر الصغيرة.
ويمكننا مع بداية مجلس الشيوخ أن نقول وداعاً لنائب الخدمات، المحاصر دائماً من أبناء دائرته الصغيرة نسبياً بضرورة تقديم العزاءات، ومباركة الزيجات، والمشاركة فى احتفالات ختان البنين والبنات، ولننتظر جميعاً نواباً بمواصفات تليق بالنهضة التى تشهدها مصر حالياً، مهمتهم الأساسية تقديم علمهم وخبراتهم للوطن بأكمله، ودعم وترسيخ قواعد بناء الدولة المدنية الحديثة.
وتقسيم الدوائر بهذه الكيفية أيضاً سيجبر الأحزاب على اختيار الأفضل من بين أعضائها للدفع بهم لخوض الانتخابات.
من المؤكد أن الدولة المصرية ستستفيد من أخذ رأى مجلس الشيوخ فى الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، ومشروعات القوانين المكملة للدستور، ومشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة، ومشروعات القوانين التى يحيلها إليه رئيس الجمهورية، وكذلك ما يحيله الرئيس إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها فى الشئون العربية أو الخارجية.
أهلاً بـ«الشيوخ»، ولنتفاءل بمجلس جديد للنواب نشعر معه بنقلة نوعية للأداء البرلمانى فى مصر تشريعياً ورقابياً.