نشر حديثاً الموقع الشهير أخبار الدفاع (Defense News)، تقريراً بعنوان «لماذا تعتبر تركيا المفتاح للقيام بعملية بحرية بين الناتو والاتحاد الأوروبى؟»، يحاول تسليط الضوء على إشكالية الدور التركى ما بين حلف الناتو العسكرى، والاتحاد الأوروبى الكيان السياسى الكبير الذى تنتظم بداخله الدول الأوروبية الرئيسية. وقد برزت حزمة من التعقيدات مؤخراً، ما بين الدول الموجودة فى الاتحاد وفى نفس الوقت تتزامل مع تركيا فى حلف «الناتو»، خاصة حين تتقاطع مصالحهما، ويبدو الأمر على النحو الذى ظهر مؤخراً فى تبادل الاتهامات والتهديدات، ما بين اليونان وتركيا لحد الوصول إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية كل فى مواجهة الآخر، وفى نموذج آخر ما هو دائر بين فرنسا وتركيا أيضاً على خلفية ما تقوم به الأخيرة من أدوار فى ليبيا والمتوسط.
نقل التقرير عن دبلوماسيين ومسئولين فى بروكسل قولهم؛ إن تركيا تعوق محاولات الاتحاد الأوروبى لتأمين مساعدة لـ«الناتو» فى عملية حظر الأسلحة على ليبيا، التى تمزقها الصراعات الداخلية. فى إشارة إلى العملية البحرية للاتحاد الأوروبى التى أطلق عليها اسم «إيرينى»، وهى الكلمة اليونانية التى تعنى «السلام»، التى بدأت عملها فى البحر الأبيض المتوسط. حدد المجلس الأوروبى أن مهمتها الأساسية هى تنفيذ قرار حظر الأسلحة الذى تفرضه الأمم المتحدة، من خلال استخدام الأصول الجوية والأقمار الصناعية والبحرية. ووفق ما أعلنه وزير خارجية التكتل الأوروبى «جوزيب بوريل»؛ أن العملية إيرينى «تظهر التزام الاتحاد الأوروبى بإحلال السلام فى ليبيا، حتى فى الوقت الذى تحارب فيه الدول الأعضاء جائحة كورونا». مقر هذه العملية اتفق على أن يكون فى العاصمة الإيطالية روما، وتعطل بدء العمل بعض الوقت بسبب خلاف بين إيطاليا واليونان حول قيادتها، لكن فى النهاية اتفق الاتحاد الأوروبى على تداول القيادة بين البلدين كل ستة أشهر. وكما هو مدون بوثيقة العملية الرسمية، ستعمل المهمة البحرية فى شرق المتوسط لمراقبة السفن التى يشتبه فى نقلها أسلحة ومقاتلين إلى ليبيا، التى أدى النزاع فيها إلى مقتل المئات ونزوح أكثر من 200 ألف شخص.
التقرير المنشور بأخبار الدفاع؛ ذكر أن تركيا العضو فى حلف «الناتو» التى توقفت جهودها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، تشتبه فى أن «إيرينى» تركز أكثر من اللازم على الإدارة الليبية المعترف بها دولياً فى طرابلس، ولا تقوم بما يكفى من جهد مراقبة مماثلة على القوى المنافسة تحت قيادة المشير خليفة حفتر. فى إشارة إلى رفض أنقرة لتلك العملية وفق ما أعلنه «خلوصى آكار» وزير الدفاع التركى فى مايو الماضى، معتبراً أنها «تفتقد الشرعية، وتهدف إلى دعم الجيش الوطنى الليبى»، حيث قام بطرح مجموعة من التساؤلات عن شرعية العملية من حيث القانون الدولى، وما هى أبعاد تعاونها مع الأمم المتحدة، كما أضاف هل قام مطلقو هذه العملية بالتنسيق مع حلف الناتو والدول الأخرى بالمنطقة؟ مبرزاً أن هؤلاء، يقصد الدول، لديهم مشكلات فيما بينهم، وبعضها لم ترغب فى أن تكون طرفاً فى هذا الموضوع، بحسب اعتقاد الوزير التركى الذى استهجنها على نطاق واسع فى منصات الإعلام التركية.
بحسب التقرير ذكر مسئول السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى «جوزيب بوريل» الثلاثاء الماضى، أن الاتحاد والناتو «يناقشان كيفية وضع ترتيب جديد للتعاون -وليس المشاركة- بين العملية إيرينى والناتو، بحيث تعزز من مصلحتنا المشتركة». وبوريل حدد أنه سيشارك فى مؤتمر عبر الفيديو مع وزراء دفاع «الناتو»، على أمل وضع اتفاقية هذا التعاون فى الأيام المقبلة. لكن البعض من دبلوماسيى الناتو أثاروا شكوكاً حول ما إذا كانت تركيا ستسمح بحدوث مثل هذا الترتيب، لأن التحالف الذى يضم (30 دولة) يعمل على أساس الإجماع فى اتخاذ قرارات تعاون من هذا النوع، ولذلك يظل ضمان الدعم المطلوب محل شك كبير. وفى الأصل تظل آلية العمل بالعملية «إيرينى» قاصرة إلى حد بعيد، فالقوة المشاركة تضم سفينتين وثلاث طائرات فقط ولم تقدم دول الاتحاد المزيد حتى الآن، والحادث الأخير الذى كانت تركيا طرفاً فيه، تمثل فى شك أفراد «إيرينى» فى سفينة شحن مشبوهة ترفع علم تنزانيا، وترافقها سفينتان حربيتان تركيتان، وعندما رفضت سفينة الشحن الرد على إشعارات قوات «إيرينى» ردت مرافقتها التركية بأن الشحنة المحملة عليها تحمل معدات طبية متجهة إلى ليبيا.
لم يكن هناك رد فعل يمكن اتخاذه بشكل مباشر بحق السفينة التنزانية، التى وصفت بتقرير قوة «إيرينى» بالمشبوهة، هذا أوضح بجلاء حجم القصور فى آلية العمل الرقابى للعملية البحرية. وهناك ما هو أكثر إيضاحاً للأمر؛ فأفراد القوة البحرية اضطروا إلى الاتصال بالسلطات التنزانية والتركية فى محاولة للتحقق من المعلومات والشكوك التى أحاطت بـ«حمولة» السفينة، وسبب حمايتها بمرافقة بحرية عسكرية من الجانب التركى. ووفق ما يمكن عمله؛ تقوم إيرينى بنقل المعلومات التى توافرت لديها إن كانت رداً من السلطات المشغلة للسفن، أو شكوك أفراد العملية البحرية، إلى الأمم المتحدة باعتبارها الجهة التى تقوم بجمع تلك المعلومات من أجل مراقبة تنفيذ قرار «حظر الأسلحة».
هل يمكن تصور أكثر من هذه الآلية، لتوصيفها بالمتاهة أو فقدان الفاعلية التى يمكن أن يعتمد عليها فى تنفيذ عملية رقابية، حيث استغلت تركيا فجواتها وقصورها من أجل نقل الأسلحة والمرتزقة براحة كاملة، لم يتقدم أحد لمنعها من ذلك. بل هى التى تتجهز لقطع الطريق على أى شكل من أشكال التعاون، وتطوير العمل ما بين تلك العملية البحرية و«الناتو». والمثير أن هذه الأمور ليست من قبيل الأسرار، إنما تجرى وقائعها تحت شمس المتوسط الساطعة وفى وضح نهاره المضىء، ما مثل سبباً رئيسياً لانسحاب فرنسا من عملية الناتو «حارس البحر»، بل ويكتب عنه التحليلات والتقارير من نوع ما قمنا باستعراضه الآن فى أشهر المنصات الدولية المعنية بشئون العمل العسكرى!