تشكيلة القائمة الوطنية لمرشحى انتخابات مجلس الشيوخ فتحت المجال واسعاً لمناقشات متعددة ومتنوعة، ترتبط فى أغلبها بأوضاع الأحزاب المصرية، ومن ناحية أخرى بأحاديث جبهة 30 يونيو، التى قال البعض إنها ماتت وانتهت، بسبب خلافات اعتبرها البعض مؤشراً على تصدع الجبهة، وهى المقولة التى تحيا جماعة الإخوان الإرهابية على أمل حدوثها.
قبول قادة هذه الأحزاب العمل معاً فى قائمة واحدة معناه، وببساطة، الرغبة فى الوجود بإطار ائتلاف وطنى، وهو ائتلاف لا يعنى أبداً الاندماج أو الذوبان، وإنما يعنى وعياً راقياً بمبادئ الاتفاق والاختلاف داخل البيت، والثقة فى القدرات والإمكانات الخاصة بكل حزب، والقناعة بضرورة التماسك والاصطفاف الوطنى فى لحظات تاريخية من صفحات كتاب تاريخ الوطن.
لفترات طويلة غابت أصوات الأحزاب، لأسباب لا أعتقد أن مجال الحديث عنها ومناقشتها الآن مُجدٍ، لكن المؤكد أن هذا الغياب أو الأفول للوجود الحزبى كان له آثاره السلبية على واقعنا الاجتماعى، وفتح ثغرات فى جدار الوطن سمحت لقوى معاداة الدولة والوطن بالتسرب إلى المشهد، والظهور فى شكل البديل المتاح، وهو ظهور مزيف لأنه لم يعكس ولن يعكس إلا صوتاً عالياً يتردد صداه بسبب هذا الصمت السياسى فى المجتمع.
الحاصل أن التوليفة السياسية للقائمة الانتخابية تعكس، وبالدرجة الأولى، ائتلافاً انتخابياً، ولا تعكس أو تؤشر إلى ائتلاف سياسى، والفارق بين المعنيين كبير، والغرض من كل واحد منهما مختلف تماماً عن الآخر، وكل اتجاه منهما يؤشر إلى مسار سياسى مختلف، وربما يؤشر أيضاً إلى ما سيكون عليه المشهد السياسى بالبلاد.
الواقع يقول إن القائمة ضمت أصواتاً كانت خلال المرحلة السابقة فى موقع مختلف على الخريطة السياسية للبلاد، وهو قول لا يسىء لأصحابه، ولا يضر بالدولة، بالعكس هو تطور يؤكد أن جوانب إيجابية مختلفة بدأت تضرب بجذورها فى المشهد العام من الجانبين على حد سواء، وتتيح المجال لحديث مستقبلى مختلف عن نظيره فى الماضى.
وهو تطور يعنى أيضاً أن جبهة 30 يونيو، وكما أشرنا فى مواضيع سابقة، ما زالت قائمة، وهى غير قابلة للتصدع، إلا إذا خرج عنها من استبعد الدولة الوطنية وانضم إلى الداعين لإسقاطها، وهو ما لم يحدث سوى من جماعة الفوضويين التى ترتمى فى كل حضن حسب اللحظة، وغير ذلك فإن الخلافات التى ضربت أطراف الجبهة هى خلافات طبيعية وليست تناقضات على مواقف وانتماءات، وهى خلافات قابلة للتطور والتغير فى ضوء الوعى بخطورة اللحظة على الدولة الوطنية.
الحاصل أن أطراف القائمة من الأحزاب يجمعها توافق وتفاهم على القضايا الأساسية ذات الصلة بحماية الوطن والدولة من مخاطر محيطة، وهى مخاطر تستهدف حالة نهوض تنموى ووطنى، يرصده الأعداء جيداً، ويرغبون فى محاصرته لحماية مشروعهم الاستعمارى ومخطط تقسيم المنطقة، وإغراقها فى صراعات طائفية ومذهبية غير محدودة الآثار، والتوافق بين أحزاب القائمة يعنى القبول بمنطق الخلاف السياسى على ملفات وقضايا فى إطار التوافق على مبادئ الدولة الوطنية، ورفض مخططات ومحاولات إضعافها أو إسقاطها وإقامة مشاريع سياسية وأيديولوجية معادية للهوية الوطنية المصرية.
الائتلاف الانتخابى يؤكد أن كل طرف من أطرافه متمسك بمواقفه ورؤاه وبرامجه السياسية، وهو ائتلاف لا يعنى أبداً التوافق السياسى بين أطرافه، ويتيح لكل أعضائه حق الاختلاف وطرح الرؤى والمواقف من القضايا والملفات المختلفة المطروحة على أجندة مجلس الشيوخ فى المرحلة المقبلة.
هو تصور يؤشر إلى تنوع متوقع ومنتظر فى مناقشات الغرفة البرلمانية الثانية، وهو تنوع يؤشر أيضاً إلى مدارس مختلفة، لها خلفياتها وأفكارها الأيديولوجية المتعارضة، والحديث عن مناقشات مجدية وعميقة فى مجلس الشيوخ لا أعتقد أنه سيكون مسألة شكلية، لكنها فى الأغلب ستكون محاورات مهمة ومؤثرة لطرح آراء متنوعة ومتعددة على الرأى العام، وإبراز معانى التعددية المطلوبة.
المؤكد أننا أمام مشهد سياسى مغاير، يطرح واقعاً مختلفاً، يتيح إظهار الخلاف السياسى، وإظهار التباين المفترض، هو مشهد تنازل فيه كل طرف عن جانب من التباينات والخلافات، وإن اتفق الكل على أن هذا التنازل مرتبط، فى ظنى، بالرغبة فى مشاركة أوسع بدوائر القرار، سواء من خلال التأييد أو المعارضة للسياسات المطروحة من الحكومة.
الشاهد أن الأحزاب أمام واقع جديد، خصوصاً وأن بعضها شكا أو يشكو من التغييب لدوره فى الحالة العامة، وهى شكوى لها جانب من الحق، لكن فى المقابل أيضاً، غابت الأحزاب عن المشهد، بسبب الخلط بين واقع يفرض ظروفاً محددة وبين رغبتها فى الانزواء، والاكتفاء بدور المراقب، وهى أدوار ساهمت كما أشرنا فى تسلل جماعات وهمية مزيفة إلى المشهد السياسى الوطنى، واحتلت مساحات لا تُعبر عن الواقع بقدر ما عبرت عن غياب لأصحاب الوجود الحقيقى.
أعتقد أننا أمام لحظة فارقة فى المشهد الحزبى، وهى لحظة أتمنى أن تتواصل فى اتجاه تفعيل وتكريس دور الأحزاب فى دوائر القرار، ولا أتمنى أبداً أن تمتد إلى منطقة الائتلاف السياسى، بل على العكس أن تُعمق مساحة التنافس السياسى على القرار، خصوصاً وأن الطرح الجديد يواجه حرباً ضروساً، يشكك أصحابها فى قيمة وجدوى هذا الائتلاف الانتخابى، وهى بالقطع حرب سببها خوف هذه الجماعات المزيفة على ضياع المساحات التى تسللت لها فى غياب الأحزاب، ورفضها لأى محاولة لإعادة تشكيل المشهد الحزبى السياسى فى البلاد.
من الصعب تخيل تغيير المشهد بكل تفاصيله فى لحظات، لأن الحالة الحزبية تعانى الكثير من المشكلات الداخلية والبنيوية، ويعتريها صراعات مؤثرة، لكن إرادة الفعل السياسى، التى تمت ترجمتها فى قرار المشاركة بالقائمة الوطنية الموحدة، يمكن الاستفادة منها فى توفير زخم لاستعادة الحياة الحزبية إذا ما رغبت الأحزاب فى ذلك، وتعاملت مع التطورات الجديدة للاستفادة منها، بدلاً من إدماجها فى أدوات صراعاتها الداخلية.