مائتان وخمسون مليون دولار مساعدات عاجلة على المدى القصير، ومطالبة بتحقيق شفاف لكارثة الميناء، ودعوة إلى القيام بإصلاحات سياسية قوامها صيغة سياسية جديدة، وأخرى بالسماح للمتظاهرين السلميين للتعبير عن مطالبهم. العبارات السابقة هى مجمل نتائج المؤتمر الافتراضى الذى نظمه الرئيس الفرنسى ماكرون لدعم لبنان بعد كارثة ميناء بيروت فى الرابع من أغسطس الجارى، نتيجة انفجار 2750 طنًا من مادة نيترات الأمونيوم كانت فى أحد العنابر منذ عدة سنوات، وتدور حولها شكوك حول صلتها بحزب الله اللبنانى. وفى تفاصيل المساعدات المنتظرة أنها ستكون من أجل توفير الغذاء ومستلزمات طبية وإعادة بناء البيوت التى تهدمت وترميم المدارس، والأهم أنها ستذهب مباشرة إلى اللبنانيين وعبر الأمم المتحدة وليس عبر الأجهزة الحكومية اللبنانية. وكم كان المرء يطمح أن يكون الدعم للبنان تحت مظلة عربية منذ البداية إلى النهاية، عبر مشروع مارشال عربى يحمى سيادة لبنان ويوفر الحماية لعملية تغيير وإصلاح لبنانية فكرًا ومسارًا. مجرد طموح لا يسنده الواقع العربى.
لبنان أمام مرحلة جديدة من التدخل الدولى تقوده فرنسا تحت شعار المجتمع الدولى لن يخذل لبنان، وهو دعم إغاثى بالدرجة الأولى، وقصير المدى، ومُحمل بدلالات سياسية خطيرة لا تُخطئها العين. فحين يتم التركيز على أن يذهب الدعم أياً كان حجمه كبيراً أم صغيراً، مباشرة إلى اللبنانيين بحجة ضمان ألا يذهب إلى الفاسدين، فالنتيجة هى إنتاج مزيد من عدم الثقة بين الحكم والمواطنين، ومزيد من الاضطرابات السياسية، وهى نتيجة نقيض ما هدف إليه المؤتمر أصلاً. وحين تتولى الأمم المتحدة مهمة تقوم على التواصل المباشر مع الشارع وأهله ونيابة عن الحكومة وأجهزتها فى دولة ما، فهذا إعلان عملى بموت تلك الدولة.
حجم الدعم ونوعيته وشروطه، والذى لا يتناسب مع حجم الدمار الذى لحق ببيروت وأهلها، ويتجاوز 15 مليار دولار، يؤكد أن المؤتمر لم يفلح فى زحزحة الموقف الأمريكى المتعلق بفرض عقوبات على كوادر من حزب الله وشركات ومؤسسات تتعامل معه. ونظرًا لوضعية الحزب فى المجتمع والحكومة والبرلمان فإن العقوبات الأمريكية هى عملياً موجهة للدولة اللبنانية ومؤسساتها الرسمية والمدنية، والتى تجد من الصعوبة بمكان أن تدفع الحزب إلى التخلى عن قناعاته الأيديولوجية وسلوكه الإقليمى المتناسق مع إيران، وأسلحته التى يُصر على أنها أسلحة مقاومة ضد إسرائيل. وهنا المعضلة الكبرى التى تواجه الطبقة السياسية اللبنانية بكاملها، من يؤيد الرئيس عون وحزب الله أو من يعارضهما، إذ يدرك الجميع جيداً أن المقاربة مع الحزب لإعادة هيكلته ليصبح لبنانياً وحسب، والتى بدأت منذ العام 2006 بعد انتهاء العدوان الإسرائيلى على لبنان، واجهتها عقبات كبرى حتى فى المراحل التى حظى فيها لبنان كدولة بدعم عربى ودولى كبير ومتنوع، وهذه العقبات باتت أكبر وأعمق فى المرحلة الأخيرة التى اختفى فيها الدعم والتأييد وأصبح لبنان معزولاً عربيصا ودوليًا بتأثير من العقوبات الأمريكية، ونتيجة لتطورات الحرب فى سوريا وانخراط الحزب فى معاركها، بحجة أن منع سقوط النظام فى سوريا هو فى صالح لبنان أيضاً.
لقد لمح الرئيس ماكرون إلى تلك المعضلة فى زيارته التعاطفية الأخيرة إلى بيروت حين صرح بأنه سيطرح تأثير العقوبات الأمريكية على لبنان مع الرئيس ترامب من أجل إعادة النظر فيها، ومراعاة الوضع اللبنانى. ومع تدنى المساعدات التى انتهى إليها المؤتمر الافتراضى الأخير، وشروطها السياسية المعلنة، تأكد أن الموقف الأمريكى غير مستعد لتغيير أسلوبه فى التعامل مع لبنان وتفهم طبيعته السياسية الخاصة، وعدم استعداد اللبنانيين وهم فى قمة غضبهم للتخلص من آفة الطائفية السياسية والمحاصصة فى المناصب، وبالتالى سيظل لبنان تحت الضغط، وغير قادر على الحركة من مربعه الراهن إلى مربع آخر. وهكذا سيظل موضوع التغيير الهيكلى للحكم فى لبنان مسألة عصية على التحقق إلى حد كبير.
صحيح أن الغضب الشعبى يتصاعد وينذر باللجوء إلى العنف والفوضى، لكنه أيضاً لن يستطيع تحقيق هدفه الأكبر فى تغيير نخبة الحكم أو إسقاط النظام حسب الشعارات التى يرفعها البعض، طالما استمر الوضع تعبيراً عن الغضب وحسب، وفاقداً رؤية واضحة تمثل بديلاً سياسياً مدعوماً من كل الفئات والطوائف، ويمكن إنجازه فى مدى زمنى معقول. ولو افترضنا أن اللبنانيين الغاضبين أمكنهم التوافق على نخبة بديلة يدفعون بها إلى الواجهة لتتولى مسئولية التغيير المُعبر عن طموحات الناس الحقيقية، سيظل نجاح العملية برمتها مرهوناً بدعم عربى ودولى سخى وبدون شروط أو استحقاقات يفرضها هذا الطرف أو ذاك.
لقد أثبتت سياسة العقوبات الأمريكية القانونية والاقتصادية، فى الغالبية العظمى من الحالات التى طبقت فيها أنها لا تحقق الهدف المعلن، ونتيجتها المباشرة هى زيادة معاناة الشعوب وفقدانها الأمل فى التغيير، لفقدانها الموارد التى تعينها على التحرك المدروس من أجل الإصلاح الوطنى. وفى حالة تطبيق عقوبات أمريكية على أطراف عربية كما هو الحال فى سوريا ولبنان، وبسبب ارتباط هذه العقوبات بتعزيز المصالح الإسرائيلية وتفوقها الميدانى على الأطراف العربية ما يجعلها فاقدة الأخلاقية المعنوية والسياسية، والتى تدفع إلى رفضها وعدم الاعتداد الشعبى بها، اللهم الجهات الرسمية التى تضع فى اعتبارها العلاقات مع الدولة الأمريكية.
مشروعية المطالب الشعبية اللبنانية فى تغيير بنية الحكم ورموزه مسألة غير قابلة للنقاش. ولكنها ستظل محل مناقشة وجدل بلا طائل، ما دامت تلك المطالب بلا قيادة شعبية تخرج من رحم الشارع، يضع ثقته فيها ويرى فيها البديل المنتظر. والعقبة الأكبر هنا تتعلق بكيفية وضع هؤلاء فى مواقع السلطة، والمطروح هو الانتخابات المبكرة شرط أن يتم تشريع قانون انتخابات غير طائفى، وهنا معضلة أخرى، فأعضاء البرلمان الحالى جاءوا وفقًا لقانون يجسد الطائفية السياسية ويقدسها، ومن الصعوبة تخيل أنهم سيكونون أول من ينقلب بطيب خاطر على قانون طائفى أوصلهم إلى البرلمان، وسيدعمون قانوناً انتخابياً غير طائفى يفتح المجال أمام مشاركة بأسس وطنية، تدعم المساواة والكفاءة والقبول الشعبى الحر.
هذه الإشكالية القانونية والعملية التى تحول دون تطور النخبة السياسية سلمياً، وفى حال استمرارها وفى الوقت ذاته يصاحبها ارتفاع معدلات الغضب والاستياء الشعبى، قد ينزلق الوضع اللبنانى إلى الفوضى المدمرة، على نحو قد يُغيّب لبنان الذى عرفته البشرية. ويظل الرهان على حكمة رموز الطوائف فى دعم قانون غير طائفى وتقبل نخبة سياسية جديدة سلمياً، أو مواجهة الفوضى والخراب.