غداة إعلان الاتفاق الثلاثى بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والولايات المتحدة يوم الخميس الماضى، والذى يقضى بإقامة علاقات طبيعية بين أبوظبى وتل أبيب فى مقابل تجميد قرار نتنياهو بضم أراض فلسطينية فى الضفة الغربية، نشر الكاتب الشهير توماس فريدمان مقالاً فى «نيويورك تايمز» تحت عنوان «زلزال جيوسياسى جديد يهز الشرق الأوسط»؛ وهو المقال الذى خلص فيه إلى أن الخطوة الإماراتية بمنزلة زلزال سيترتب عليه تغيرات فارقة وضخمة ذات طابع استراتيجى.
من جانبى، لا أتفق كثيراً مع ما ذهب إليه هذا الكاتب البارع فى هذا الصدد؛ إذ يبدو أن الخطوة الإماراتية مفهومة، وحظيت بتمهيد مناسب، وتوافرت لها معطيات واضحة ومقدمات عديدة، رغم ما بدا من موجة اعتراض وتنديد أمكن حصرها سياسياً فى الإفادات الصادرة عن القوى الفلسطينية وتركيا وإيران، وإعلامياً فى ما صدر عن المنابر المدعومة من قطر، ومشاغبات «السوشيال ميديا». وفى المقابل، بدا العالم مستعداً لقبول تلك الخطوة بشكل واضح، بل والترحيب بها أيضاً؛ وهو ما ظهر فى تأييد سياسى واضح من جانب مصر والبحرين وسلطنة عمان عربياً، وترحيب من المفوضية الأوروبية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والأمم المتحدة، فضلاً بالطبع عن الاحتفاء الأمريكى الواضح، والذى لم يقتصر على الرئيس ترامب وأركان إدارته، ولكنه امتد أيضاً ليشمل المرشح الديمقراطى للرئاسة جو بايدن، الذى زاد أيضاً بتعهده بالمضى قدماً فى معارضة خطط الضم الإسرائيلية للمناطق الفلسطينية فى حال انتخابه رئيساً.
من خلال هذه الجردة الواضحة تتكشف ملامح استقبال مؤيد فى مجمله للخطوة الإماراتية، وعندما نعرف أن هذا الاستقبال تضمن أيضاً إشارات يصعب جداً دحضها عن اتخاذ دول عربية أخرى لقرارات مماثلة فى القريب، تزيد العوامل التى تنفى فكرة «الزلزال» عن الخطوة الإماراتية. ولعل تعبير الدبلوماسى المخضرم السيد عمرو موسى، فى محاولته لشرح هذا التطور، يلقى بأضواء كاشفة على هذا القرار، ويشرحه بشكل أكثر موضوعية ومنطقية. يقول السيد عمرو موسى إن هذا الاتفاق يشير إلى أننا أصبحنا فى «عالم مختلف يسقط مسلمات ويبنى أسساً جديدة للعلاقات الدولية»، قبل أن يسترسل بمطالبة الدول العربية التى يمكن أن تحذو حذو الإمارات فى هذا الصدد بضرورة أن «تفهم أن وقف الضم قد عولج فى الاتفاق مع الإمارات، وأن عليها إذا أقدمت على مثل هذا التطبيع أو الاعتراف أن يكون المقابل مختلفاً لصالح الفلسطينيين ويحقق لهم مكاسب مضافة»، ومبيناً أنه «من المهم أخذ المصالح الفلسطينية المشروعة فى الاعتبار وإقامة مسار تفاوضى يؤدى إلى حل سلمى منصف لتلك القضية العتيدة». لم يكن ما جرى «زلزالاً» إذن بقدر ما كان تعبيراً عن واقع جديد، تسقط فيه «مسلمات» بحسب تعبير موسى الدبلوماسى الحريص دوماً على اختيار مفرداته. لكى نفهم القرار الإماراتى يجب أولاً أن نشير إلى أن الإمارات دولة معتبرة وبارزة فى إقليمها، وتحظى باحترام وتقدير عالميين، وتنطوى على تماسك وطنى داخلى لافت، وتتمتع قيادتها بثقة وشرعية كاملة، استناداً إلى تحقيقها إنجازات ملموسة فى مختلف مجالات العمل الوطنى، وأن أدوارها الإقليمية والدولية مشهودة فى دعم الاستقرار والسلام وتقديم يد العون للدول الأقل نمواً. ثمة ثلاث زوايا يمكن من خلالها تحليل القرار الإماراتى، أولاها زاوية السيادة؛ فلا يوجد ما يعوق ممارسة أبوظبى سيادتها فى اتخاذ قراراتها فيما يخص علاقاتها الدولية، وثانيتها الاعتبارات العاطفية والأيديولوجية، التى يمكن أن تكون تعبيراً عن مصطلح «المسلمات» الذى ورد فى تعليق السيد عمرو موسى، وثالثتها زاوية البراجماتية السياسية، التى تحتم على القادة اتخاذ القرارات وفق تشخيصهم للمصالح الوطنية، وبعد حساب دقيق للتكاليف والمنافع.
لقد كان الشيخ زايد آل نهيان زعيماً مؤسساً بارزاً فى هذه المنطقة، ورغم مرور نحو 16 عاماً على رحيله فما زال الحديث يجرى كل يوم تقريباً عن ودائعه السياسية؛ وفيما يخص قضية الصراع مع إسرائيل تحديداً، فقد لعب أدواراً مشهودة وبارزة، بدءاً من دعم مصر منذ العدوان الثلاثى، وحرب 1967، ومروراً بقرار قطع النفط الشهير وقت أن كانت مصر وسوريا تخوضان الحرب ضد إسرائيل فى 1973، وصولاً إلى رفض مقاطعة مصر بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، والتصدى لدعوات عزلها.
يعنى هذا أن زايد تفهم موقف مصر التى لجأت إلى عقد معاهدة صلح مع إسرائيل فى مقابل استرداد أراضيها، وهو هنا يعطى المثل ليس فقط على احترامه سيادة القاهرة، ولكن أيضاً على تفهم دوافعها البراجماتية، التى استطاعت من خلالها أن تحرر أراضيها، تارة عبر الحرب وتارة عبر اتفاق السلام. تقول الإمارات إن اتفاقها مع إسرائيل والولايات المتحدة توج جهوداً حثيثة بذلتها على مدى أشهر لوقف ضم الأراضى الفلسطينية، عبر استخدام قدراتها الدبلوماسية لإنقاذ حل الدولتين، وصولاً إلى تحقيق مطالب الشعب الفلسطينى المشروعة فى الاستقلال والحرية والكرامة وفق مقررات الشرعية الدولية، وهو أمر بدت نتائجه واضحة فى تعهد تجميد قرار الضم، الذى لاقى معارضة شديدة من جانب اليمين الإسرائيلى، إلى حد اتهام نتنياهو بالتراخى والخيانة للموافقة عليه. وتؤكد أيضاً استمرارها قدماً فى سياسات التفاوض، التى اختارها العالم العربى وسيلة لتحقيق آمال الشعب الفلسطينى المشروعة والعادلة، خصوصاً أن إجراءات تطبيع العلاقات ستتوازى مع التقدم الحاصل فى مسار التسوية المطلوبة. من المهم أن نأخذ فى الاعتبار أن الإمارات تتعرض لضغوط من الجانب الإيرانى، وتواجه ميليشيات مدعومة من طهران فى اليمن، وتجابه تعنتاً وصلفاً تركياً بدا خطره مجسداً على مقربة منها بعد نشر عسكريين أتراك فى قطر.
عندما اتخذت الإمارات قرارها بإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل شُبه للبعض بأنها أحدثت زلزالاً سياسياً، والواقع مختلف، فقد أتى هذا القرار فى سياق ما بعد الانتفاضات العربية، وتهدم عدد من الدول، وانتشار الميليشيات الإرهابية فى أكثر من دولة، وتصاعد المدين الإيرانى والتركى، وتغول تهديدهما. للإمارات الحق فى أن تقرر مسار علاقاتها الإقليمية بما يخدم مصالحها الوطنية، وهى مطالبة بتوظيف قدراتها الكبيرة فى هذا الإطار من أجل ضمان الحل العادل والكريم للقضية الفلسطينية.