كان منصباً رفيعاً، ومكاناً جليلاً، يدل حتماً على تمكُّن صاحبه من العلوم، ووجاهته، وحشمة مقامه، ولا ينهض بالخطبة على منبر الجامع الأزهر إلا الخطباء المفوهون المصاقع، نظراً لمكانة الجامع الأزهر، وجلالة منبره، وأنه هو المنبر المرموق بالأنظار، والذى تتبدره المسامع، لتصغى لما يقول، وتستوحى منه البصيرة، فهل أجلُّ منابر المشرق علماً، وهو صوت مصر والأزهر فى الإبانة عن المواقف والأحداث الجسام.
قال الأستاذ محمد عبدالمنعم خفاجى فى كتابه: (الأزهر فى ألف عام):
«ويبدو أن وظيفة خطيب الجامع الأزهر لبثت تنمو فى الأهمية على مر الزمن تبعاً لنمو أهمية الأزهر نفسه، وقد كان يلى الخطابة على الجامع الأزهر فى العصور المتأخرة والمتقدمة أكابر القضاة والعلماء، فنرى بين خطباء الأزهر فى أواخر القرن السابع الهجرى قاضى القضاة تقى الدين أبا القاسم بن تاج الدين، وفى أوائل القرن التاسع الهجرى قاضى القضاة الحافظ ابن حجر العسقلانى».
وقال العَلَّامَة القاضى عبدالحفيظ بن محمد الطاهر الفهرى فى كتابه المسمى: (المُدهش المطرِب): «خطيب الجامع الأزهر أعظم خطيب بالديار المصرية، حيث إنه أعظم مسجد بها، ولهذا يذهب خطيبه فى الجمعة الأخيرة من شهر رمضان للخطبة بجامع عمرو بن العاص حسب القواعد المقررة فى الديار المصرية».
والغرض من أن خطيب الأزهر كان يخطب الجمعة الأخيرة فى مسجد عمرو بن العاص أن خطيب الأزهر لجلالته، وسمو مقداره، ينزل ضيفاً مهيب المقدار فى أقدم مساجد مصر وأعرقها، وهو جامع عمرو بن العاص، من باب إمداد الأزهر لأقدم محاريب مصر بأجل خطبائه، وفى ذلك إشارة رمزية لعلو مكانة الأزهر، وأنه القائم بعمارة كبريات منابر مصر برجاله.
ولو أن أحداً من نبهاء الباحثين نشط لجمع كتاب فى تراجم خطباء الجامع الأزهر لكان حسناً، لا سيما وقد جُمعتْ المؤلفات فى خطباء المساجد التى تأتى بعد الأزهر الشريف فى الدرجة، نظير ما نهض له المؤرخ محمد أبوالفرج الخطيب الحسنى، حيث جمع كتاباً عنوانه: (الخطباء والخطابة فى جامع بنى أمية)، والخطباء والخطابة فى الجامع الأزهر الشريف أولى بالجمع والتتبع، خصوصاً أن ظاهرة الخطابة قد كانت من أجلِّ ما يمنحه الأزهر لأبنائه وعلمائه، فكان من أجل ما يتميز به الأزهريون الجهارة والفصاحة فى الخطابة والموعظة البليغة النافعة، التى تستنير بها العقول فى أوقات الظلمات المدلهمة.
وكان أولئك الخطباء أمثال: البرهان السقا، وابنه العَلَّامَة محمد إمام، والعَلَّامَة حسن رجب السقا، وصولاً إلى طبقة الشيخ صالح الجعفرى، والشيخ إسماعيل صادق العدوى، وهذه الطبقة من الخطباء الفصحاء ذوى الجهارة والبلاغة والفصاحة والارتجال والتدقيق وامتلاك نواصى القلوب. (ما مضى كان نقلاً عن الجمهرة الكبرى، المسماة: «جمهرة أعلام الأزهر الشريف»، ج1، ص292، 293).
هذا عن مكانة خطباء الجامع الأزهر فى الماضى، حين كان منبرُ الأزهر أزهراً مضيئاً، ومصباحاً يُهتدى بنوره، وأما حال منبر الأزهر اليوم فلن أتحدث فيه، مع أن عنوان المقال يُوحى بذلك، فقط أترك القارئ ليستخلص بنفسه الفرق.
على أن الباحث النابه الذى ينشط لجمع كتاب عن خطباء الجامع الأزهر، أو إنجاز رسالة ماجستير أو دكتوراه عن منبر الأزهر وتاريخه ودوره فى الدعوة، عليه بأمرين:
الأول: بيان أن خطباء هذا المنبر الفخيم كانوا أهل ذكرٍ وصلاح وولاية وخشية ومهابة، بجانب كونهم أهل علم وفصاحة وبلاغة.
الثانى: التوقف فى الكتابة عند فترة زمنية معينة، فلتكن قبل عدة سنوات مثلاً، رفعاً للحرج، وتثبيتاً للأصل الذى كان وسيعود إن شاء الله.