مع اقتراب بدء العام الدراسى الجديد فى ظل الإجراءات الاحترازية لمكافحة وباء «كوفيد -19»، تظل هناك حاجة ماسة إلى متابعة وفحص الآثار المتوسطة وبعيدة المدى التى ستتولد عن الطريقة الجديدة للتعليم عن بُعد. ففى المقال الذى نشره رئيس مجموعة البنك الدولى قبل ثلاثة أيام، عن دور البنك الدولى فى تقديم المعونات وبرامج التحفيز للدول الفقيرة والنامية لمواجهة فيروس «كوفيد -19»، أشار إلى تأثير العملية التعليمية الجديدة على مستقبل الجيل الحالى، معتبراً أن النتائج السلبية لفيروس «كوفيد -19» سوف تستمر لفترة طويلة على قطاعى الصحة والتعليم، فهناك مليار طفل فى العالم كله لا يذهبون إلى المدارس.
لقد فرض وباء «كوفيد -19» اللجوء إلى التعليم عن بُعد لحماية التلاميذ والطلاب من العدوى. الأمر حتى اللحظة جيد، لكن علينا أن نعترف بأن هذا النوع من التعليم سوف يولد آثاراً نفسية وتربوية وعلمية واجتماعية على التلاميذ والطلاب. ففى الدول المتقدمة التى تقدم تعليماً افتراضياً، هناك مشاكل كبيرة تتعلق بالمنهج والمحتوى الملائم للعملية التعليمية الجديدة. وبالنسبة للدول الفقيرة والنامية، فالمشكلة أكبر من عدم تناسب المنهج والمحتوى، وتمتد إلى ضعف العملية التعليمية نفسها نظراً لقلة الإمكانيات وضعف البنية الأساسية للاتصالات ومحدودية نطاقات شبكة الإنترنت، بحيث لا تستطيع أن تواجه أعباء الاتصال التعليمى لملايين الأطفال والأولاد فى المدى الزمنى نفسه، ناهيك عن أن نسبة كبيرة من الأسر لا تستطيع أن توفر للأبناء حاسبات آلية أو تابلت للدخول على الشبكة، والنتيجة أن عدداًَ أكبر من الأطفال لن يحصلوا على أى تعليم، وهنا فالمفهوم التقليدى للتسرب التعليمى سوف يصبح واقعاً بكثافة أكبر فى ظل «كوفيد -19».
عن تجربة شخصية، وكذلك تجارب العديد من الأساتذة، فالتعليم عن بُعد يفتقد إلى العديد من عناصر العملية التعليمية الطبيعية؛ أهمها فقدان التواصل المباشر والإنسانى بين الطالب والمعلم. هذا البُعد يؤثر على الأساتذة بقدر أكبر من التأثير على الطلاب، إذ يفتقدون المعايير الإنسانية التى من خلالها يمكنهم الحكم على مدى تحصيل الطلاب ومدى قدرة كل منهم على استيعاب ما يقال أمامهم، وثانياً هناك غياب كامل للمناقشات الحية التى تثرى العقل وتمنحه إمكانيات أكبر على فهم المعلومات ونقدها واطلاع الطالب على رؤى زملائه بشأن زوايا أخرى للموضوع محل المناقشة، وثالثاً تفتقر الكثير جداً من المدارس والجامعات للتجهيزات المطلوبة لإتمام عملية التعليم عن بُعد، ما يجعل الاستفادة من علم الأستاذ وتحفز الطالب لاكتساب المعرفة عملية أقرب إلى تكون عملية ميكانيكية بلا روح، ورابعاً إن بقاء التلاميذ والطلاب فى المنازل يفقدهم الشعور بأهمية التعليم ذاته، ويفقدهم أهم عنصر ناتج عن الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، وهو اكتساب خبرات حياتية بطريقة إنسانية متدرجة، فالمدرسة ليست مجرد مبنى، بل هى وعاء لبناء الشخصية من خلال الاحتكاك مع الزملاء الآخرين، وتكوين الصداقات واكتشاف السمات الشخصية للآخرين، كما أنها مساحة للجرى والرياضة والتأمل، وكلها عناصر مهمة لبناء وصقل الشخصية. وأخيراً وليس آخراً فالتعليم عن بُعد لا يضمن أن الطالب سيكون ملتزماً ومتنبهاً لما يقوله المعلم فى الوقت المحدد، لا سيما أن أفراد الأسرة يكونون موجودين فى المنزل، بما يشتت الانتباه، وفى حالة وجود أكثر من طالب فى المنزل الواحد، وبافتراض توافر كل الأجهزة المطلوبة، فليس هناك ما يضمن أن الطالب سيكون فى حالة تركيز وتنبه لما يقوله المعلم أو الأستاذ. وفى كل الأحوال يتيح التعليم عن بُعد للآباء التدخل فى العملية التعليمية، والمؤكد أن هذا التدخل ليس إيجابياً على طول الخط.
أما الامتحانات عن بُعد فحدث ولا حرج، سواء كانت أسئلة متعددة الإجابات ويترك للطالب اختيار أحدها، أو أسئلة تتطلب ما يُعرف بكتابة مقال أو تحليل يعكس إدراكه لمضمون السؤال. والفكرة هنا أن أسلوب الامتحانات أيضاً لن يوفر للأستاذ تقييماً موضوعياً للإجابات التى أمامه. هذه العملية بهذه المواصفات لا تنمى العملية التعليمية، ولا تنتج سوى أنصاف متعلمين.
إذاً نحن أمام جيل يتشكل بطريقة مختلفة، أبرز سمات تكوينه العزلة الإجبارية والانطواء على الذات، والارتباط أكثر بالتقنيات والأجهزة على حساب التواصل الإنسانى الطبيعى. سوف يكون لهذا الجيل احتياجات مختلفة وطموحات غير محددة بدقة. وفق التصنيفات المعتمدة للأجيال، فهؤلاء ينتمون لما يُعرف بالجيل «زد»، المولود ما بين 1995 إلى 2010، وجيل «ألفا» المولود ما بعد 2010. وكلا الجيلين، وفقاً لاستطلاعات الرأى والدراسات التى مولتها كبريات شركات الاتصالات، يشترك فى عدد من الخصائص السلوكية، فهم جيل منطوٍ على نفسه ويفضل العزلة، وهو موهوب فى إبداع المحتوى، ولا يهمه مصدر المعلومة بقدر سهولة الوصول إليها من خلال محركات البحث على شبكة الإنترنت، ولا يستطيع تصور غياب الهاتف المحمول عن يديه لأربع ساعات. أما مستوى التركيز والانتباه فهو محدود جداً، لا يزيد على 12 ثانية، ويثق فى شراكة الأصدقاء عبر الإنترنت أكثر من ثقته فى الصداقات الطبيعية الناتجة عن التواصل الإنسانى المباشر.
وإذا كانت هذه سمات هذا الجيل قبل وباء «كوفيد -19» فكيف سيكون فى ظل فرض إجراءات التباعد الاجتماعى التى تتضمن أيضاً إغلاق النوادى والمسارح ودور السينما والمطاعم، وهى المنافذ التى تساعد الأولاد والشباب على إطلاق طاقاتهم البدنية وتنميتها فى حال امتلاكهم مواهب رياضية أو فنية أو موسيقية، ثم تأتى العملية التعليمية بالشكل الوارد ذكره لتضع تحديات كبرى على هذا الجيل، كما تفرض على المسئولين عن العملية التعليمية أن يضعوا فى اعتبارهم أن الأمر ليس هزلاً، وأن التأثيرات المتوقعة بعد سنوات ستطال نمط الحياة كله، سواء البحث عن العمل أو طريقة الشراء والتسوق أو أنماط الترفيه أو الرياضة المفضلة.
لست ضد التعلم عن بُعد، فهو أسلوب يحفر لنفسه طريقاً مُعبداً فى العالم كله، حتى إذا تمكنت البشرية من السيطرة الكاملة على وباء «كوفيد -19». ولا يعنى ذلك التسليم لنتائجه المتوقعة على النحو الذى أشارت إليه الدراسات المجتمعية من قبيل الفحص والتحذير. المطلوب وضع حلول مبتكرة للنتائج السلبية قبل أن تفرض نفسها على المجتمع ككل. فخروج أجيال عن بيئة التنشئة الطبيعية والمحكومة بمنظومة قيم تناسب المجتمع، يؤدى حتماً إلى هزات كبرى فى هذا المجتمع، والعلاج لا بد أن يأتى الآن قبل أن تستفحل الأمور، وليس غداً بعد أن تضيع الفرص والإمكانيات.