يعيش أهلنا فى الأراضى الفلسطينية عموماً، وفى قطاع غزة خصوصاً، أياماً صعبة، ليس فقط بفعل التحديات المزمنة التى تواجههم منذ عقود طويلة، ولكن أيضاً لأن جائحة «كورونا» عززت الضغوط عليهم وضاعفت المشكلات الحياتية التى يواجهونها.
ومن بين المشكلات الضخمة التى يواجهها قطاع غزة قلة الموارد المالية والعجز عن دفع الرواتب والوفاء بالاستحقاقات الضرورية وتردى الخدمات، وهو أمر يتطلب مد يد العون لهم ومحاولة رفدهم بالقدر اللازم من الأموال الضرورية لمواجهة تلك الأعباء. لطالما قامت دول عربية (مقتدرة وغير مقتدرة) بالعمل على مساعدة الأشقاء الفلسطينيين مالياً، وبعض المساعدات التى تلقاها قطاع غزة كانت غير مشروطة وغير مرتبطة بالأوضاع السياسية، لكن بعض تلك المساعدات، وليست العسكرية بالضرورة، كانت مرتبطة عادة باستحقاقات سياسية محددة.
دفع أموال للسلطة القائمة فى قطاع غزة لسد حاجات المواطنين عمل وطنى وقومى وإنسانى وأخلاقى مطلوب ومحبَّذ، بل هو التزام على العرب وغيرهم ممن يؤمنون بالقضية الفلسطينية ويعارضون الاحتلال الإسرائيلى وممارساته العدوانية، لكن ربط تلك الأموال بمتطلبات سياسية محددة هو عمل مغرض، والأخطر منه أن يكون هذا الارتباط محققاً لمصلحة إسرائيل ومستهدفاً تعزيز أمنها.
على أى حال هذا ما بدا أن قطر تفعله وتحرص عليه، أو على الأقل هذا ما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية مرموقة عدة يوم 11 أكتوبر الجارى، حين قالت إن محادثات تجرى بين إسرائيل وقطر وحركة «حماس» لبحث تحويل 100 مليون دولار من الدوحة للحركة «مقابل استقرار التهدئة بين إسرائيل والقطاع لمدة ستة شهور».
وفى التحليلات التى هدفت إلى شرح هذا الخبر يرد أن الحكومة القطرية قررت التدخل من أجل تثبيت التهدئة بين إسرائيل و«حماس» بما يؤمّن حماية للأولى من الهجمات التى يشنها مقاتلون من الجانب الفلسطينى عبر وسائل عدة، سواء من خلال إطلاق الصواريخ أو البالونات الحارقة أو الهجمات المسلحة.
تريد قطر أن تدفع أموالاً لقطاع غزة، ليس لسد حاجات مواطنيه أو تعزيز قدرته على مواجهة تحديات «كورونا» أو تضامناً معه فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلى، ولكن لضمان أمن إسرائيل.. تشترى قطر هدوء وأمان جبهة إسرائيل مع «حماس» لمدة ستة أشهر بمبلغ 100 مليون دولار.
لا يشكل ذلك الخبر مفاجأة صادمة، ولا يصيبنا بالدهشة، ولا يطرح علامات استفهام وتعجب، بقدر ما يكرّس الصورة التى نعرفها ويعرفها العالم عن السلوك السياسى القطرى فى الملف الفلسطينى، وهو سلوك يقوم على استغلال القضية الفلسطينية من أجل تعزيز المصالح القطرية وتعميق علاقات الدوحة بكل من تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الغربية الأخرى.
فى شهر ديسمبر من عام 2010، نشر موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس» وثيقة تنسب إلى الشيخ حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر، ووزير خارجيتها الأسبق، وأحد أهم عرّابى سياساتها واستراتيجياتها، يقول فيها: «مصر تبدو مثل طبيب لديه مريض واحد، وإذا كان هذا هو العمل الوحيد لدى هذا الطبيب، فإنه سيسعى لإبقاء المريض على قيد الحياة.. ولكن فى المستشفى لأطول فترة ممكنة». لقد كان هذا السياسى القطرى النابه يتحدث بالطبع عن «المريض الفلسطينى»، إذ رأى أن مصر فى نهايات عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك كانت قد جُرِّدت من كل نفوذها الإقليمى وتأثيرها الدولى تقريباً، ولم يبقَ لها سوى قضية واحدة تثبت بها أنها ما زالت قادرة على الفعل، ولذلك فإنها تماطل فى حل تلك القضية، لأنها ببساطة لن تجد شيئاً آخر تفعله إن تم حلها.
لكن ما قاله هذا السياسى القطرى المؤثر والفاعل سابقاً وحالياً فى تلك الوثيقة لم يكن كل الحقيقة ولم يكن كل ما يقصد وينوى أن يفعل، إذ أرادت قطر أن تكون هى هذا الطبيب المزعوم الذى يستثمر فى «المريض الفلسطينى» لتحقيق مصالحه المشبوهة والمغرضة، على عكس ما فعلت مصر على مدى سبعة عقود من المساندة والدعم المخلصين للقضية الفلسطينية.
ترتكز قطر، ومعها تركيا ظاهرياً، على أيديولوجيا دينية فى مقاربة الموضوع الفلسطينى، وعلى الأرض عند التطبيق فإن الدولتين تستخدمان تنظيم «الإخوان» كرأس حربة وأداة رئيسية فى مقاربة القضية، ويتوسل الفاعلون الثلاثة فى هذا الإطار بدعاوى دينية يعرفون جيداً أنها تجذب الاهتمام وتحظى بالرواج بين أوساط من المواطنين العرب والمسلمين البسطاء، بينما يشير الواقع إلى عكس ذلك تماماً، ويفضح العلاقات الناعمة والودية والاستراتيجية بين الفاعلين الثلاثة من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى.
فى العام 2012، صدر تصريح لافت عن السفير الإسرائيلى السابق لدى مصر إسحاق ليفانون، والذى غادر القاهرة فى أعقاب قيام متظاهرين باقتحام السفارة الإسرائيلية وإنزال العلم من عليها وحرقه، وفى هذا التصريح قال ليفانون بوضوح إنه لا يخشى من وصول الإسلاميين إلى حكم مصر، لأنهم «مرنون».
حكم محمد مرسى مصر سنة، هيمن خلالها «الإخوان» على جميع الأطر السياسية فى البلاد، ولم تتأثر العلاقات المصرية- الإسرائيلية سلباً.
لقد رأى ليفانون، فى حوار نشرته صحيفة «الرأى» الكويتية، فى 25 مارس 2012، أن «الإخوان» لن يتخلوا عن «معاهدة السلام»، وأنهم برهنوا أن «لديهم مرونة».
يبدو أن ليفانون على حق، فالإسلاميون مرنون بكل تأكيد.
ألم يرسل مرسى رسالة إلى نظيره الإسرائيلى آنذاك شمعون بيريز، يصفه فيها بـ«الصديق الوفى»؟ ألم يتمنَّ لدولة إسرائيل «التقدم والرفاه»؟
«الإخوان» هم من رددوا هتافات «خيبر خيبر يا يهود. .. جيش محمد سوف يعود» على مدى ستة عقود، وعارضوا التطبيع و«السلام» وحرضوا على «الجهاد»، وهم الذين توسطوا فى «هدنة» بين إسرائيل و«حماس»، وحافظوا على أمن الحدود الغربية للدولة العبرية طيلة فترة وجودهم فى السلطة.
تركيا تحتفظ بعلاقات استراتيجية دافئة مع إسرائيل لا ينال منها أبداً ما يتفوه به أردوغان بين وقت وآخر من انتقادات يعرف الإسرائيليون أنها للاستهلاك المحلى.
أما ما تفعله قطر فى هذا الملف فليس أقل براجماتية وانتهازية، إذ تسخّر أدواتها «الإخوانية» ومنصاتها الإعلامية لشن الهجمات الكلامية على إسرائيل والتغزل فى كفاح الشعب الفلسطينى، بينما هى تبذل مئات الملايين من الدولارات فى الواقع من أجل ضمان أمن إسرائيل وحرصاً على سلامتها.