ما يُثار عن إجبار فتاة فى مدرسة على ارتداء الحجاب ليس بجديد، ومسألة إلزام الفتيات بارتداء الحجاب فى المدارس مسألة قديمة ومتكررة، منذ الثمانينات حتى الآن، والإعراب عن الاستنكار والدهشة أمر طيب وإيجابى، لكن إظهار الإحساس بالصدمة مسألة مُبالغ فيها، لأن الواقعة ليست جديدة وليست مفاجئة، ولا تمثل تطوراً سلبياً فى واقع يعانى السلبية فى هذا الصدد من حقب وعهود سابقة.
كل من له عينين يرصد ويرى بسهولة، مئات الفتيات فى سن الطفولة، وهن يغادرن مدارسهن يومياً وكُلهن يرتدين الحجاب، فى مظهر لا يبدو منه على الإطلاق الالتزام الشخصى الجماعى بالصورة التى نراهُن عليها، وإنما للمشهد دلالته فى أن الحجاب عند تلميذات الابتدائى أصبح جزءاً إلزامياً -حتى ولو غير رسمى- من الزى المدرسى.
من يجتهد قليلاً فى البحث عبر الشبكة العنكبوتية، سيرصد العديد والعديد من الوقائع المشابهة، التى تتعلق بشكاوى ووقائع لإلزام مدرسين أو مدرسات للتلميذات بارتداء الحجاب قسراً، بل إن بعض تلك الأحداث فى نهايات الثمانينات بلغت مستوى طرد التلميذات من المدرسة حتى العودة إليها بالحجاب مرة أخرى.
لم يُحرّك أحد ساكناً للأسف خلال عشرات السنوات، وبات من المدهش أن الأغلب الأعم من تلميذات المدارس الابتدائية، خصوصاً الحكومية منها، وعلى الأخص تلك المنتشرة فى المحافظات والمدن والقرى يرتدين الحجاب، وكما ذكرت باعتباره جزءاً من الزى المدرسى، الذى لم يصدر أساساً له قرار بفرضه على التلميذات.
المنظمات النسوية ومراكز الطفولة والأمومة، صبّت جل اهتمامها على قضايا أخرى، بعيدة كل البعد عن ملف التنشئة، وبات الاهتمام الأبرز لقضايا لا داعى لتوصيفها، لكن يكفى القول إنها وثيقة الصلة بأجندات تمويل، تفرض على المجتمع قضاياه، أكثر مما تدعم توجّهاته للتعامل مع أولويات يحددها بنفسه.
جانب مهم من الأمر مرتبط بثقافة «سلفية» يتم فرضها على المجتمع قصداً أو مصادفة، بمعارك غير مفهومة الهدف، وهى -المعارك- التى دوماً ما تنتهى إلى نتائج نراها فى حياتنا اليومية، من انتشار النقاب، وتعميق ثقافة النظرة المتدنية للمرأة، ومحاصرتها مجتمعياً وأسرياً.
صحيح أن مصر شهدت فى السنوات الأخيرة تحركات إيجابية ومؤثرة لدعم المرأة ودورها فى المجتمع، لكن الصحيح أيضاً، أن أغلب تلك الإجراءات، لم يصطدم مباشرة حتى الآن بثقافة رجعية غائرة فى المجتمع، تقاتل فى كل لحظة، من أجل إفراغ تلك المنجزات من مضمونها، للإبقاء على الثقافة السائدة.
جزء من مشكلة هذا الوطن، المعركة الثقافية من أجل التطور، وهى معركة متنوعة ومتعدّدة، ولا تدور رحاها فى مجال واحد، وإنما تمتد مواجهاتها إلى ما هو أبعد من ذلك، وتبدأ بالعقلية الأسرية، مروراً بالمدرسة، ومناهج التعليم، والعلاقات المجتمعية، وثقافة احترام الهوية والخصوصية، وعشرات العناوين التى لا يكفى هذا المقال لسردها والحديث عنها.
واحدة من تلك المعارك ترتبط بالدولة ومسئولياتها، ومن هذه المسئوليات متابعة ما يدور فى المدارس، كيف انتشر الحجاب وتسيّد فى مدارس الأطفال الحكومية؟ أنا على يقين بعدم صدور أى توجيهات أو تعليمات بإلزام فتيات فى سن الطفولة بارتداء الحجاب، لكننى أيضاً على يقين بأن أى مسئول لم يشغل باله بمتابعة ما يجرى، ولم يرصد أو يلحظ ما يدور، ولم يسأل نفسه عن الأسباب والدوافع التى أنتجت هذه الحالة، وما دلالتها ومغزاها الاجتماعى والثقافى، وتأثيرها على النشء، سواء من الفتيات أو الفتيان على حد سواء.
المسألة ليست فى ارتداء الحجاب من عدمه، وليست موقفاً مؤيداً أو معارضاً، وإنما فى حالة تفرض نفسها بعيداً عن القانون والنظام العام، من شاء يتحجّب هو حر، ومن يرفض الحجاب هو حر، إنما الفرض على الآخر أن يفعل قسراً أو غصباً، وأن يتم ذلك مع أطفال لا يملكون من أمرهم شيئاً، وأن يحدث ذلك دون أن يحرّك أحد ساكناً، هنا لا بد من التوقف.
من غير المقبول أن يتحدّث البعض عن فرض الدين، فالأديان لا تفرض، وليس من حق أحد أن يتحدّث عن غرس القيم والعقائد فى أذهان النشء، لأنه لا يوجد القيِّم على حياة الناس، وإنما هناك الأسر المسئولة، وهناك العلم والعقل الذى يُحدّد ما يجب ومتى يجب، وليس الأمر بيد أحد، بعيداً عن القانون.
وهنا تطل منطقة الثقافة برأسها، لا مجال فى المجتمع إلا للقانون والنظام العام، ولا يجب أبداً على مؤسسات الدولة الخضوع لابتزاز تحت مسميات وتوصيفات دينية، هى فى جوهرها وحقيقتها ليست كذلك، والمسألة ليست فى قرارات أو إجراءات، وإنما سلوكيات ومبادرات يجب أن تقودها الدولة لإعمال القانون والنظام على الجميع، مهما كانت المبررات.
نحن لسنا فى حرب دينية، ولا فى مواجهة مع الدين، كما سيحاول البعض تصوير الأمر، وإنما المسألة ببساطة هى فى الحرية الشخصية، ووضع الأمور فى نصابها، واحترام مسئولية كل طرف، وقبل كل ذلك قيام كل طرف بمسئولياته وواجباته، أما سياسة غض الطرف أو إغماض العين وتجاهل التطورات السلبية فلن تُنتج سوى مفاقمة المشكلات وتُعمق أزماتنا المجتمعية، التى لا نزال نعانى منها ونحاربها فى أشكال وصور متعددة.