انقسم الناس فى الدفاع عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ضد الصور المسيئة له فى فرنسا وتصريحات الرئيس الفرنسى إلى عدة أصناف، كل صنف يَغار على الرسول الكريم، لكن هذه الغيرة منها ما كان محموداً حكيماً منضبطاً، ومنها ما كان حماسياً أهوج منبوذاً، ومنها ما لم يكن موجوداً أصلاً.
الصنف الأول: أولئك الذين يحبون رسول الله، ويغضبهم هذا التصرّف الخارج، وهؤلاء لم يجدوا دفاعاً عنه إلا أن تلهج ألسنتهم بالصلاة والسلام عليه، وذكر المدائح النبوية الشريفة، التى تصف الرسول ومكانته وأخلاقه، وهؤلاء أحسنوا فى ما فعلوا، وقاموا بواجبهم تجاه النبى الأعظم.
الصنف الثانى: قابلوا الإساءة بالإساءة، والبذاءة بالبذاءة، وهؤلاء ساعدوا فى تشويه صور نبيهم، لأنهم ظنوا أنهم بهذا يدافعون عنه، لكنهم ينتقمون لأنفسهم، والغيرة على الرسول إنما تكون فى اتباع أخلاقه فى الدفاع عنه، وحين سخر المشركون منه وشوهوه بالشعر استخدم الشاعر حسان بن ثابت الوسيلة نفسها لتوضيح الصورة، وإظهار مكارم أخلاقه، وغاب عن هؤلاء: (فاصبر على ما يقولون، فقولا له قولاً ليناً، وأعرض عن الجاهلين).
الصنف الثالث: أهم الأصناف، ولكنه الصنف الغائب، ليس فى خطابنا الدينى الموجّه للغرب ولغير المسلمين، ولكنه الغائب فى الخطاب الدينى الموجه للمسلمين أنفسهم، هؤلاء هم الدعاة والخطباء والوعاظ وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات والأقسام الدينية الذين قصَّروا فى تقديم الصورة الحقيقية عن النبى الأعظم، حتى وقف البعض عن اختصار رسالة الرسول ودعوته فى إطلاق اللحية، وتقصير الثوب، ومحاربة المقامات، وتحريم الغناء والموسيقى، وكأن رسالته هى هذا.
غاب عن هؤلاء -إلا من رحم ربى- تقديم الجانب الإنسانى فى حياة الرسول الكريم، وكيف قدّم رسولنا نموذجاً حضارياً معرفياً وفق السنن الإلهية، والمقاصد الكبرى، والتشريعات الجامعة.
لم نسمع منهم كيف سرى منهج الرسول الكريم لحفظ النفس والعقل والعِرض والدين والمال، ومحبة العمران، واحترام الإنسان، وتعظيم الأساس الأخلاقى، والانفتاح على العالم، والدعوة للجمال والتعارف والبر.
لم نقل للناس كيف برزت فى رسالة النبى محمد قيمة الطفولة، وقيمة المرأة، وقيمة البيئة، وحقوق الأكوان، بما فيها الحيوانات والجمادات والنباتات، وكيف أتى بدين اتسع للمسلم والمسيحى واليهودى، والبوذى، والملحد، وسائر الأفكار والتوجّهات، على ألا يشعر فيه واحد من هؤلاء بأنه مُكره أو مضطهد، مع مواصلة التصحيح والتبيان بالحسنى لكل منهج منحرف عن رسالة السماء، ثم يُترك الإنسان لاختياراته فى الاعتقاد والأفكار والملبس دون إكراه.
لم نُخرج للناس الأحاديث النبوية الداعية للبحث العلمى، وتبادل العلوم والرؤى والمفاهيم، وبناء الأوطان والمحافظة على المؤسسات، وبناء علاقات الأفراد ببعضهم، ومعرفة وظائف الدولة، وقواعد المعارضة، ومحاربة الغلو والتشدّد والتزمّت.
لم نقل للناس هذا الحديث الشريف يدعونا لتنشيط البحث العلمى، وهذا الحديث يدعونا لتشغيل الطاقات المبعثرة، وهذا التصرف النبوى يدعونا لتبنى العقول العبقرية الخاملة والمواهب المنسية، وهذا الموقف النبوى يدعونا لتنشيط الوقفيات وجذب الخبرات، وهذا الحديث يدعونا لطرد اليأس والإحباط، وهذا الحديث يدعونا للإحياء والنهضة والعمران.
لم يسمع الناس الأحاديث الداعية للبُعد عن التعجل والتسرع، والتعود على التفكير والتأمل المنضبط للوقائع والأحداث، وترتيب المعطيات، واستخلاص النتائج، ولم نقل للناس كيف أن الرسول صنع الإنسان، وبنى الحضارة، ونشر النور، وأدرك مراد الله من شرعه، ونبذ التطرّف والانحراف بشتى أنواعه، وتمّم مكارم الأخلاق، ونشر القيم، واستلهم الحكمة، ورحم الخلق، ووسعهم، وتفاعل معهم، ولهذا وغيره استحق أن يكون سيد الأصفياء، وصفوة الأتقياء، ومظهر الاجتباء.
كل ذلك نحن فيه مقصرون، وخطابنا فيه غائب، فعذراً رسول الله.