تظل الانتخابات فى العالم محل جدل وخلاف واسع، فلا انتخابات ديمقراطية أو غير ديمقراطية، وإنما انتخابات منضبطة أو غير منضبطة، فكل العمليات الانتخابية ديمقراطية، والأهم هو التدابير والإجراءات التنفيذية، وحتى الأخيرة محل جدل، وتختلف عليها الآراء، كل من زاويته وحسب مصلحته.
من أبرز ما تابعته فى الانتخابات البرلمانية الدائرة حالياً خوض «المناهضين» للدولة المصرية للانتخابات بمرشحين على المقاعد الفردية، وهى علامة مهمة تدحض ما يشاع عن المنع للمواطنين من الترشح لمبررات سياسية، ورغم أن هؤلاء لم يشاركوا من أجل الفوز بمقعد هنا أو هناك، وإنما لاستغلال المناخ الانتخابى فى الدعاية السياسية والترويج لحركاتهم وجماعاتهم، لكنهم فى كل الأحوال أصبحوا جزءاً مهماً من العملية الانتخابية، وشاهداً على ومشاركاً فى حيويتها، ودليلاً على توافر ضمانات لحماية الحملات الدعائية للمرشحين، خصوصاً مع عدم إعلان أية شكاوى فى هذا الجانب.
وستظل إخفاقات رموز برلمانية وسياسية مهمة، من الجولة الأولى فى العديد من الدوائر الانتخابية بمحافظات مختلفة، شاهداً على استقلالية العملية الانتخابية، ودليلاً على عدم التدخل فى أعمالها من جانب السلطة التنفيذية أو غيرها من المؤسسات، كون هؤلاء المُخفقين من الذين يراهم الرأى العام محسوبين على الدولة، ويأتى إخفاقهم دليلاً على أن الدولة لا تُغير أو تُبدل إرادة الناخبين، التى تم التعبير عنها بحيادية وعدالة.
بالقطع سينطلق البعض لاستغلال إخفاق هذه الرموز فى الحديث عن تصفيات سياسية، أو صراعات أجنحة داخل الدول، وهو منطق معوج كونه وارد الاستخدام فى كل الحالات، فلو نجح هؤلاء سيقال إن الدولة ساندتهم وأنجحتهم، ولو أخفقوا -كما حصل فعلاً- سينطلق هؤلاء للحديث عن تخلى الدولة عن رجالها، وهو ما أعلنوه فعلاً، فهؤلاء الأهم عندهم هو الإساءة والتشويه لأى إجراء أو إنجاز فى الدولة.
الشاهد كذلك أن الرشاوى الانتخابية وشراء الأصوات فرضت نفسها على المشهد الانتخابى، وهى تصرفات يقوم بها المرشحون، وبالتالى هى سلوكيات شخصية، وليست توجيهات حكومية باستخدام المال العام وإنفاقه على عمليات لتوجيه الناخبين، بل إن البعض استغلها فى حالات للإساءة إلى مرشحين محترمين، بافتعال حالة وتصويرها ونسبتها إلى مرشح محدد.
والرشاوى الانتخابية ظاهرة مزمنة فى الانتخابات المصرية، ويعرفها المصريون من العهد الملكى، وقت شق العملة الورقية نصفين، ومنح النصف الثانى للناخب بعد خروجه من المقر الانتخابى، وهى نفس الحالة التى استخدمتها جماعة الإخوان الإرهابية بكثافة فى كل الدوائر الانتخابية بكل المحافظات من دون استثناء فى أول انتخابات عقب أحداث يناير، وظنى أنها ستتواصل، طالما ظلت نصوص التشريعات وأدوات التنفيذ تحتاج إلى المزيد من العناية، وطالما لم تتحدد آليات صارمة لمحاصرة هذه الحالة ومنع تفشيها.
واللافت فى هذا السياق هو سيطرة مصطلح «المال السياسى» على المشهد الانتخابى، وهو للأسف استخدام فى غير محله، وتوصيف لحالات غير مطابقة لمسمياتها، وهو للأسف أيضاً يُمثل إساءة فى غير موضعها للانتخابات المصرية وللمشهد السياسى بشكل عام فى البلاد، خصوصاً أن التعامل مع المصطلح وبكثافة عالية أصبغ حالة غير صحيحة على الانتخابات.
توصيف «المال السياسى» ارتبط بظاهرة برزت قبل عهود، حين قررت احتكارات عالمية، ومنظمات دولية تعمل فى التجارة غير المشروعة، وجماعات الجريمة المنظمة، الاستيلاء على دول، وتوجيهها سياسياً لصالح أنشطتها غير المشروعة وتوظيفها فى حماية مصالحها، وكان الباب الأسهل هو التمويل الخفى لمرشحين وجماعات وأحزاب سياسية، للحصول على أغلبية داخل برلمانات بلادها تمكنها من تشكيل الحكومات، وسن القوانين والتشريعات لصالحها.
لذلك وصفت التعريفات الدولية لمسألة المال السياسى -كما ورد فى وثائق أممية- بأنها «تلك الأموال التى تتسلمها الأحزاب أو الجماعات أو المرشحون دون رقابة الدولة»، ولا تخضع للسيطرة، ولا يمكن تتبع مسارها، وهى توصيفات ترتبط كلها بمسألة غياب العلانية وعدم خضوعها للقانون والالتزام بالتشريعات والقرارات والإجراءات، وهى تُفرق بين حق أى فرد فى المجتمع فى ممارسة ودعم الأنشطة العامة، وبين العمليات السرية التحتية التى تستهدف اختراق القانون والمجتمعات للسيطرة عليها.
الشائع فى بلادنا -رغم الفارق الكبير- هو الخلط بين مشاركة رجال أعمال فى الانتخابات، أو انحيازهم لحزب سياسى، وتمويل حملاته ونشاطاته ومشاركاته الانتخابية، وبين الظاهرة المعروفة باسم «المال السياسى»، التى تُعد المسألة الأخطر تأثيراً ليس فقط على العملية الانتخابية بل السيطرة على مفاصل الدولة، وهو الخطر الأعظم.
الحاصل أنك لا تستطيع وفقاً لأى معايير أن تمنع فئة من المجتمع عن ممارسة حقوقها السياسية إلا وفقاً لقانون يتعلق بارتكاب مخالفات وخروقات قانونية تمت إدانتها بأحكام قضائية، لذلك حرصت الوثائق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة على التفرقة بين تلك المشاركة من رجال الأعمال وبين ظاهرة «المال السياسى» التى تهدد استقلال الدول وإرادتها.
لذلك تضمن التشريع المصرى ضمانات لتحديد سقف للإنفاق المالى، وحدود للتبرعات لصالح المرشحين من الأفراد أو الجماعات، والإعلان عن هذه التبرعات أو مصادر التمويل، ومنح السلطات المختصة حق الرقابة على هذه الأموال، ومراجعة مصادر تمويلها وجوانب إنفاقها، وتحديد المؤسسات المسموح بإيداع أموال التبرعات بها، والإلزام بعرض ميزانيات الحملات على السلطات المعنية المحددة فى نصوص القانون، وحددت عقوبات فى هذا الشأن لا تسقط بمرور الزمن باعتبار المخالفات من هذا النوع جرائم، وهكذا أنت فى مصر، ووفقاً للضوابط المُقرة والتعريفات الدولية المحددة فى هذا الشأن، لا ترصد التمويل السرى للانتخابات أو ما يطلق عليه «المال السياسى» البعيد عن رقابة الدولة، قدر ما ترصد رشاوى انتخابية وشراء أصوات يقوم بها مرشحون بالمخالفة للقانون.
ومع تزايد تمثيل المرأة فى البرلمان، وفقاً لنصوص دستورية وتشريعية، باتت مسئولة بدرجة كبيرة فى إبراز تميزها التشريعى والرقابى أمام الناخبين، وتثبيت دورها المجتمعى، كقيادات قادرة على حصد المقاعد بقناعة الناخبين وليس بنصوص الدستور، خصوصاً مع التباين الكبير المستمر فى الأعداد بين الناجحات على القوائم وبين من حصدن مقاعد فى المنافسات الفردية، فعلى الرغم من ازدياد نسبة مشاركة الناخبات المصريات فى التصويت، لكن يبدو أن المرشحات لم يتمكن حتى الآن من إقناع الناخبات وجذب التصويت لصالحهن.
وستظل مسألة تنوع تشكيل القوائم الانتخابية بائتلافات حزبية، أو من تحالفات مستقلين أو بينهم وبين الحزبيين، وعدم اشتراط خوض الانتخابات للقوائم فى كل قطاعات الدولة، واحدة من ضمانات تحقيق التعدد والتنوع الانتخابى، إلى حين توافق المعطيات المجتمعية مع متطلبات وشروط القوائم النسبية، وقتها سيكون لكل حادث حديث.