احتفل عدد ممن يطلقون على أنفسهم نشطاء حقوقيين بفوز بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية وكأنهم هم مَن فازوا، لدرجة وصلت إلى أن كتب أحدهم فى تغريدة على تويتر (أخيراً: قليل من الأكسجين) منتظراً نسمات ربيع آخر تأتيه من أمريكا، وبقراءة سريعة لهذه الفرحة المتوقعة أراها فرحة مَن فُتح له باب رزق جديد عن طريق دكاكين حقوق الإنسان، فلا يخفى على أحد من المتابعين للسياسة الأمريكية أن هوى بايدن السياسى يميل، وبشكل واضح، إلى استكمال نهج أوباما الساعى إلى إقرار وضع سياسى تراه أمريكا هو الأنسب لمنطقة الشرق الأوسط، وأوسع بوابات الدخول لهذا الهدف هو إعادة استغلال ملف حقوق الإنسان وممارسة ضغوط على دول المنطقة من خلال هذا الملف.. من وجهة نظرى أن المراهنين على ذلك خاسرون لأكثر من سبب.
أولها: أن بايدن وهو يتولى إدارة أمريكا فى ظل جائحة كورونا وآثارها السلبية على المجتمع الأمريكى يجب أن تكون لديه سياسة اقتصادية واقعية ومقنعة للأمريكان، حيث إن المهارة والكفاءة الاقتصادية كانت تُحسب من نقاط قوة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مقابل منافسه جو بايدن. والآن بعد فوز بايدن فى الانتخابات عليه أن يثبت أن لديه الكفاءة والخطط اللازمة لدفع عجلة الاقتصاد الأمريكى إلى الأمام، فقبل أربع سنوات وعد دونالد ترامب العمال الأمريكيين بعودة مواطن العمل من الخارج إلى أمريكا، فمواطن العمل هذه ظلت لقرابة 100 عام العمود الفقرى للنجاح الاقتصادى للولايات المتحدة الأمريكية، وفى السنوات الـ20 الأخيرة انتقلت إلى بلدان مثل الصين والمكسيك.
وبغضّ النظر عن النتائج المثيرة للتساؤل بشأن محاولة إعادة إحياء حركة الإنتاج الداخلية، وجدت السياسة الحمائية لترامب وشعاراته مثل «أمريكا أولاً» صدى كبيراً فى الوسط العمالى. ولذلك لم يكن مثيراً للعجب أن يَعِد منافسه الديمقراطى فى الحملة الانتخابية باستعادة الموقع الصناعى المتقدم لأمريكا إذا ما فاز فى السباق الرئاسى، وبأن تكون هناك منتوجات أكثر تُنتَج فى أمريكا. والآن بما أن فوزه تحقق فإن على جو بايدن العمل على الوفاء بوعوده، ورغم أن مكافحة وباء كورونا لها الأولوية لدى بايدن كما جاء فى خطابه بعد فوزه فى الانتخابات، فإنه سيوسع حملة «اشتروا ما هو أمريكى» لدعم الإنتاج المحلى ومن ثم إيجاد ملايين فرص العمل الجديدة، بينها مليون فرصة فى قطاع صناعة السيارات، لكن بدون مكافحة ناجحة لجائحة كورونا، لا يمكن إصلاح الاقتصاد، كل هذه التحديات وغيرها التى يواجهها بايدن فى بداية حكمه لن تتيح لأى حديث خارج هذا السياق أى شعبية مطلقاً.
أما السبب الثانى والأهم: فهو أن قواعد وثوابت الحكم فى الدولة المصرية أصبحت مغايرة تماماً عن أزمنة وعهود سابقة، فنحن أمام رئيس منتخب بإرادة شعبية أظهرتها صناديق الانتخاب وأمام مؤسسات تشريعية منتخبة وأمام ديمقراطية تنمو وتتحقق من خلال صناديق الانتخاب التى تنقل تلك الإرادة الشعبية التى سحبت الوكالة من أى أحد يتحدث باسمها إلا مَن جاءوا عبر ديمقراطية الصندوق، وهذا لا يغفل أننا فى مرحلة بناء الدولة الديمقراطية الحديثة التى تحتمل أن تكون هناك بعض الأخطاء المستطاع علاجها وتجاوزها بالتجربة والممارسة.
المهم أن يعى الجميع أن الإرادة السياسية لمصر حالياً يحكمها مفهوم مختلف لإدارة علاقاتها الدولية وهو مبدأ المصالح المشتركة والتعامل المؤسسى مع الأنظمة الحاكمة بمختلف دول العالم فلا يعنينا مَن تختاره تلك الشعوب ليحكمها ونحترم قرارها واختيارها ولا نرضى بالتدخل فى شأنها الداخلى، كما لا نقبل بولاية أو تدخل أحد فى شأننا الداخلى.
تلك هى مصر يا مَن تنتظرون هذا القليل من الأكسجين (المسمم) من الخارج.