هل يكون أثر المعصية أفضل من أثر الطاعة؟.. تعرف على رأي الدين
الإفتاء: ثمرة الطاعة الذل والانكسار وثمرة المعصية القسوة والاستكبار
دار الافتاء - صورة أرشيفية
تلقت دار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمي سؤال حول "هل يكون أثر المعصية أفضل من أثر الطاعة؟".
وجاء نص السؤال كالتالي: "ما معنى قول ابن عطاء الله في "الحِكَم": "معصية أورثت ذلًّا وافتقارًا خيرٌ من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا"؟ وهل هي موافقة لأصول الشرع والدين، أم أن فيها امتداحًا للمعصية والعياذ بالله؟
وقالت دار الإفتاء المصرية في فتواها أن حكم الإمام ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه من أنفع ما كتب في حقائق التوحيد، ووصف طريق سلوك العبد إلى ربه، مضيفة: "أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته، وجعل الطاعة سببا في الفوز برضاه وجنته، وسببا في مرافقة الأنبياء عليهم السلام والصديقين والشهداء؛ قال تعالى "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم"، وقال سبحانه "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا"، وقال سبحانه وتعالى "ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون"
ونهى ربنا عن المعصية، وجعلها سببا في الوقوع في غضبه وسخطه، وفي التعرض للعذاب في الآخرة، وجعلها علامة على الضلال المبين؛ قال تعالى "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين"، وقال سبحانه "ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا"
وجعل ربنا سبحانه وتعالى القلب هو الأساس وعليه التعويل في القرب إليه سبحانه وتعالى؛ فقال تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» متفق عليه.
وإنما كانت المعصية التي توجب الانكسار أفضل من الطاعة التي توجب الاستكبار؛ لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار، وفي الحديث: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» رواه أبو نعيم في "الحلية" موقوفا.
فثمرة الطاعة الذل والانكسار، وثمرة المعصية القسوة والاستكبار، فإذا انقلبت الثمرات انقلبت الحقائق وصارت الطاعة معصية والمعصية طاعة.
فإذا خلت الطاعة من هذه المعاني واتصفت بأضدادها فالمعصية التي توجب هذه المعاني أفضل منها؛ إذ لا عبرة بصورة الطاعة ولا بصورة المعصية، وإنما العبرة بما ينتج عنهما في القلب؛ قال تعالى "يوم لا ينفع مال ولا بنون ۞ إلا من أتى الله بقلب سليم"
فمعاصي القلب أكثر خطورة من معاصي الجوارح، كما أن معاصي الجوارح مظهرة لأمراض في القلب يجب علاجها؛ لذا فبسلامة القلب تسلم الجوارح، وقد تحدث الطاعة الظاهرة من الجوارح معاصي شديدة الخطورة في القلب إذا لم يتنبه الإنسان ويخلص في طاعته، في حين أن المعصية قد يعقبها طاعات نافعة إذا فطن الإنسان وأناب إلى ربه.
ففي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» رواه مسلم.
وقول الإمام ابن عطاء الله السكندري: "معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا" حكمة عظيمة، وفائدة جليلة، لا تفهم على الوجه الصحيح الأكمل إلا بضمها للحكمة السابقة لها؛ حيث قال الإمام ابن عطاء الله السكندري في الحكمة السابقة: "ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببا في الوصول".
يقول الشيخ العلامة ابن عباد النفزي الرندي في شرح هذه الحكمة في "شرحه على الحكم": وذلك أن الطاعة قد تقارنها آفات قادحة في الإخلاص فيها؛ كالإعجاب بها، والاعتماد عليها، واحتقار من لم يفعلها، وذلك مانع من قبولها، والذنب قد يقارنه الالتجاء إلى الله والاعتذار إليه واحتقار نفسه، وتعظيم من لم يفعله فيكون ذلك سببا في مغفرة الله له، ووصوله إليه؛ فينبغي أن لا ينظر العبد إلى صور الأشياء بل إلى حقائقها.
ثم أكد الإمام ابن عطاء الله رحمه الله هذا المعنى بهذه الحكمة التي هي محل السؤال: "معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا".
يقول الشارح العلامة الرندي رحمه الله في "شرحه على الحكم": ولا شك أن الذل والافتقار من أوصاف العبودية، فالتحقق بهما مقتض للوصول إلى حضرة الرب، والعز والاستكبار من أوصاف الربوبية، فالتحقق بهما مقتض للخذلان وعدم القبول، قال أبو مدين قدس سره: انكسار العاصي خير من صولة المطيع.
وعليه: فإن حكمة الإمام ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه موافقة لأصول الدين ومقاصد الشرع الشريف ودقائق السلوك القويم؛ فهي حكمة لا يتعارض معناها مع هذا كله، بل تعضده وتؤكده، وليس بها ثناء على المعصية وذم للطاعة من قريب أو بعيد، وإنما هي تنبه على مراقبة القلب، وتجنب الإعجاب بعد الطاعة، كما تنبه على الإخبات والتوبة بعد الوقوع في الذنب، نسأل الله السلامة من ذلك كله.والله سبحانه وتعالى أعلم.