يشعر كثير من المصريين بقدر من التفاؤل وأن المقبل سيكون أفضل مما سبق، فقد تخلصوا من الكابوس الإخوانى رغم وجود ذيول له تتآكل مع مرور الوقت، وبات لديهم رئيس منتخب يمثل للجميع مرجعية يتم اللجوء إليها لوضع الأمور فى نصابها وفقاً للقانون والدستور. وبقدر التفاؤل الفردى والجمعى تزداد ثورة التوقعات بتحسن الحياة وزيادة فرص العمل والعيش الكريم. وتدعم بعض الأخبار مثل هذا التفاؤل الجمعى، فهناك استثمارات خليجية كبيرة يُعلن عنها تباعاً، وهناك فرص عمل محتملة، وهناك المؤتمر المهم الذى دعا إليه العاهل السعودى ويتم التنسيق بشأنه مع أصدقاء مصر لتنظيم العون الاقتصادى المطلوب فى السنوات المقبلة. فضلاً عن التغير النسبى فى الموقف الأمريكى الذى قرر الإفراج عن جزء كبير من المساعدات الاقتصادية والعسكرية التى جمدها من قبل. وهناك الكثير من نوعية تلك الأخبار التى تدعم الشعور الجمعى بالتغير إلى الأفضل نسبياً، لكن تظل الحقيقة الغائبة عن كثيرين وهى أن هذا الأفضل لن يأتى بمجرد النوايا الحسنة أو دعم الأشقاء والأصدقاء، أو انتظار ما يجود به الآخرون، ولكنه سيأتى نتيجة فكر وعمل وبرامج محددة وتضحيات حقيقية ومشاركة من الجميع فى تحمل المسئولية. وهنا مربط الفرس كما يقولون.
ويبدو لى ورغم الجهود التى تبذلها الحكومة الثانية للمهندس إبراهيم محلب، وفقاً للتوجيهات الرئاسية، أنها جهود بحاجة إلى إطار كلى، بعبارة أخرى بحاجة إلى رؤية واضحة حول ما الذى نريده للاقتصاد المصرى، وما الذى نريده بالنسبة لزيادة مساحة المشاركة السياسية، وما الذى نريده من حيث الأولويات والمدى الزمنى للإصلاح التشريعى الذى شكلت له لجنة خاصة، وكيفية إعادة هيكلة المؤسسات الرئيسة فى الدولة المصرية، وما الذى نريده بالنسبة للسياسة الخارجية المصرية من حيث الأولويات وعلاقتها بالأمن القومى. قد نجد بعض إجابات فى خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى أعلنه فى قصر القبة يوم استلامه السلطة رسمياً، وبعض إجابات أخرى فى تصريحات رئيس الحكومة وبعض الوزراء. ولكنها تظل إجابات جزئية تعالج قضايا فرعية أو محددة، أو لنقل إجابات غير متكاملة وتُنسب لأصحابها، مثل الشروع فى مشروعات اقتصادية كبرى أو تغيير خريطة المحافظات، أو تقديم حل عملى لقضية خارجية مثل سد النهضة الإثيوبى، أو التأكيد على مواجهة الإرهاب وحماية البلاد.
ولهذا السبب تحديداً ما زلنا نجد من الصعوبة بمكان الإجابة عن تساؤل رئيسى يتعلق بطبيعة نظامنا الاقتصادى الذى نطمح إليه بعد عقد من الآن، وما هى أولوياته فى المرحلة المقبلة، العاجل منها والآجل وفقاً لظروفنا وإمكاناتنا، والأمر نفسه بالنسبة للنموذج السياسى الذى سنعمل على تأسيسه ليرضى طموحاتنا ويلبى مطالب ثورتين شعبيتين لا يمكن إغفالهما أو اختزالهما فى مجرد شعارات براقة دون دليل للعمل وبرنامج للتنفيذ، وكذلك الأولويات الخاصة بالسياسة الخارجية، والطريق إلى توافق وطنى حول المستقبل، وهكذا.
ومن نافلة القول أن الدستور المُستفتى عليه يضع خطوطاً عامة لكل هذه الأمور الرئيسية، وصحيح أيضاً أن مجلس النواب المقبل سيكون مكلفاً بتحويل هذه الخطوط الرئيسية إلى تشريعات ملزمة لكل مؤسسات الدولة ولكل المواطنين، ومع ذلك فهناك حلقة مفقودة تتطلب خطوة سريعة وهذا هو وقتها، هذه الخطوة تتعلق بالدعوة إلى أربعة مؤتمرات قومية يشارك فيها كل المتخصصين وممثلون عن كل القوى السياسية وممثلون عن كل الأجيال لوضع أربعة تصورات كبرى تكون محلاً للتوافق القومى، وتصبح بمثابة دليل عمل المستقبل الوطنى من الناحيتين الكلية والإجرائية. هذه المؤتمرات القومية المطلوبة تتعلق بالنظام الاقتصادى لمصر، والثانى يتعلق بمنظومة القيم المدنية للدولة والمجتمع المصرى، والثالث عن السياسة الخارجية وتحديات الأمن القومى، والرابع عن إدماج القوى الاجتماعية والجيلية المختلفة فى صلب النظام السياسى الجديد. وكما يتضح أن هذه القضايا الكبرى مترابطة وكل منها يشتبك مع الآخر، يأخذ منه ويعطيه، ومن ثم يفضل العمل فى هذه المؤتمرات فى وقت واحد تقريباً. أو على الأقل وضع جدول زمنى لها لنعرف من سيتعامل مع ماذا.
والحقيقة أننى تصورت أثناء متابعة الحملة الرئاسية للمشير عبدالفتاح السيسى، وما طرحه من أفكار عديدة حول رؤيته لمصر وأولوياته ومشروعاته حين يختاره الشعب رئيساً، أنه سيقدم بالفعل على الدعوة إلى تنظيم مثل هذه المؤتمرات القومية الكبرى، أو تكليف الحكومة لعقد هذه المؤتمرات، ليحقق من ورائها ثلاثة أهداف رئيسية؛ الأول إعطاء دفعة قوية لبناء توافق وطنى حول القضايا المصيرية التى تهم كل مصرى أياً كان وضعه الاجتماعى والعلمى، وأياً كان عمره وجيله، والثانى رسالة للعالم أجمع بأن مصر تبنى نفسها بنفسها، وتحدد مصيرها من خلال أبنائها وعلمائها وسياسييها ومثقفيها، والثالث أن نضع أساساً علمياً ومنهجياً لعملية إعادة بناء الوطن مرتبطاً بما يتوافر من إمكانات وما يجب مواجهته من إشكاليات عاجلة أو آجلة.
معروف أن تقليد المؤتمرات القومية يصلح فى اللحظات التاريخية والانتقالية الكبرى فى عمر الأوطان، ومصر الآن كذلك. ومعروف أيضاً أن المؤتمرات القومية ضرورة وليست ترفاً أو مضيعة للوقت، خاصة أن الحراك السياسى القائم الآن فى مصر ما زال يواجه أمراض التشرذم الجيلى والسياسى، وبحاجة ماسة إلى تعزيز التوافق الوطنى حول مصر المستقبل وحسم الإشكاليات التى يبرع فيها البعض من قبيل إثارة التضاد بين 25 يناير و30 يونيو، وحتى لا تظل بمثابة ثغرة ينفذ منها غث القول وغث الفعل. وقد يختلف البعض منا حول توقيت عقد هذه المؤتمرات القومية، هل قبل الانتخابات البرلمانية أم بعدها، وقد يختلف آخرون حول طريقة عقدها هل بطريقة متتابعة أم متزامنة، وهى خلافات صحية من حيث المبدأ، ولكنها لا تلغى الحاجة الماسة والعاجلة لهذه المؤتمرات القومية، التى تشعرنا جميعاً بأننا شركاء فى بناء الوطن وشركاء حقيقيون فى تحديد مصيره، وحتى يتأكد لنا أن ساعة العمل حين تدق، فإنها تعمل وفق منهج متكامل وليس وفق مجموعة أفكار متناثرة مهما كانت قيمتها وأهميتها.
لقد ولى الزمن الذى يتحدد فيه مصير الوطن بقرار من الحاكم، وولى الزمن الذى يمكن فيه تجاهل المتخصصين أياً كان موقفهم السياسى أو الفكرى، وولى الزمن الذى يتصور فيه أحد أن المجتمع قدم شيكاً على بياض لمن يحكمه. فمصر تغيرت كثيراً.