بداية هذا الأسبوع، استُهدف مقر هيئة الأمن الفيدرالى فى جمهورية «كارتشايفا تشيركيسيا» الواقعة بشمال القوقاز الروسى، عبر هجوم انتحارى لشخص وفق الرواية الروسية استخدم «قنبلة يدوية» على مدخل المقر الأمنى. لكن عدد الإصابات التى نجمت عن الانفجار المتوسط الذى وقع بالمكان تجعل الأمر يبدو أبعد من مجرد «قنبلة»، فالأرجح أن يكون وفق نمط تنفيذ العمليات المشابهة، هناك شبهة استخدام «حزام ناسف» أيضاً. فعادة فى مثل تلك العمليات يحرص الانتحارى وهو يتقدم تجاه مركز أمنى أو إحدى نقاط التفتيش الموجودة بالطرق على أن يوقع أكبر خسائر بشرية ممكنة، خاصة أنه يعلم بالضرورة أنه لن يخرج حياً.
فى هذه العملية الأخيرة أصيب ستة من عناصر الأمن بجروح متفاوتة ما بين المتوسطة والخطيرة، فضلاً عن أن تحقيقات الأمن الروسى كشفت أن الشخص الانتحارى استخدم للاقتراب من هذا المقر الأمنى سيارة. وهذه إشارات تدل أن الانتحارى ليس عنصراً فردياً، بل من المؤكد أحد أعضاء مجموعة أو تنظيم يعرف كيف يرتب ويجهز لعملياته لوجيستياً، وقد قرر التنظيم أو من يقف خلفه أن يرسل رسالة قاسية باستهدافه للمقر الأمنى الأكثر تحصيناً، كى ينفذ بحقه عملية راهن فيها على إمكانية تدمير الإرهابى للمبنى فى حال نجاحه فى اقتحامه والدخول إليه. هذا يعزز فرضية استخدام «حزام ناسف» يمكن من خلاله أن يصيب المبنى بخسائر مادية فادحة، لكن نجاح الأمن الروسى فى استيقافه قلل من الخسائر لأدنى مستوياتها. المثير أن هيئة الأمن الفيدرالى الروسى أعلنت بعد يومين من هذه العملية عن نجاحها فى إحباط هجوم إرهابى آخر كان يخطط لاستهداف العاصمة موسكو، عبر تعقبها لنشاط مجموعة إرهابية خططت لاستخدام عبوات ناسفة فى هجوم على «منشأة أمنية» فى موسكو.
هذا الإعلان الأخير، إما جاء للتغطية على تفاصيل لا يرغب الأمن الروسى فى كشفها عن هجوم القوقاز، باستخدام صرف الانتباه لما هو أهم ويخص أمن العاصمة مقروناً بالنجاح فى تأمينه. وهذا أقرب، باعتبار أنه لم يفصح عن أى من بيانات أو أشخاص مَن كانوا يخططون لذلك، لأن الأبعد سيكون الأخطر لو أن المجموعة الموجودة بالقوقاز لديها خلية بالعاصمة موسكو، وأنها تحتفظ بقائمة أهداف أمنية أخفقت فى أحدها جزئياً وأجهض لها الأمن الروسى الآخر. يبقى الاحتمال الأخير بأن كلتا المجموعتين ليس لها علاقة تنظيمية ببعضها البعض، وهذا قد يبدو أكثر خطورة وغموضاً عن حجم وجود ونشاط المجموعات الإرهابية على الأراضى الروسية، حيث يثور تساؤل حول إمكانية أن تكون روسيا قد دخلت لفصل جديد متطور من دوائر الاستهداف، فمن اللافت أن الأمن الروسى للمرة الأولى حرص على تسريب معلومة للصحافة المحلية تفيد بأن المهاجم فى مقر القوقاز كان يصيح «الله أكبر» وهو يقترب من الحاجز الأمنى للمبنى، فى رسالة وتوجيه من الأمن الروسى لوجهة لها علاقة بتنظيمات «التطرف» الإسلامى.
سؤال استهداف روسيا بالنشاط الإرهابى يعيدنا بالضرورة إلى منطقة شمال القوقاز مرة أخرى، فهذه العملية الأخيرة ليست الأولى، حيث شهدت خلال الشهر الماضى أكبر مواجهة مسلحة فى الشيشان منذ سنوات، أسفرت عن مقتل ثلاثة من عناصر الأمن الروسى وأربعة إرهابيين أكد الأمن ارتباطهم بتنظيمات إرهابية فى الشرق الأوسط. هذه المنطقة التى تقع ما بين البحر الأسود وبحر قزوين، تتمتع بتنوع عرقى كبير، ويدين غالبية سكانها بالإسلام. المؤكد أن هذه المنطقة صدّرت للصراع الدائر فى سوريا عدداً قُدِّر وفق المصادر الروسية الرسمية بما يتجاوز (4000 عنصر)، انخرطوا فى صفوف التنظيمات المسلحة «داعش» و«جبهة النصرة» القاعدية، ومنهم من تولى مناصب قيادية بارزة فى كلا التنظيمين الأكبر والأقدر طوال سنوات الصراع. وظل القيادى «أبوعمر الشيشانى» أبرز نجوم هذه المجموعة، بعد أن وصل للمراتب القيادية فى تنظيم «داعش» ووُصف لسنوات بوزير حرب التنظيم، للحد الذى رصدت الولايات المتحدة مكافأة قُدِّرت بخمسة ملايين دولار لمن يقدم معلومات للمساعدة فى الوصول إليه. ابن القوقاز الذى وُلد فى جورجيا 1986، تمتع بمكانة المستشار العسكرى صاحب الخبرة لدى «أبوبكر البغدادى»، حيث شارك لسنوات فى العمليات العسكرية ضمن صفوف المتمردين فى الشيشان ضد القوات الروسية، قبل أن يغادر جورجيا 2012 متجهاً لإسطنبول ومنها إلى سوريا.
ساهم «أبوعمر الشيشانى» سريعاً فى صناعة كثير مما جرى أثناء سنوات ذروة صعود «داعش»، وقبل أن تقوم «قوات التحالف» بتصفيته فى غارة جوية بالقرب من الموصل فى العراق 2016، كان الشيشانى قد نقل الولاء للتنظيم إلى كثير من مناطق القوقاز فى جمهوريات داغستان والشيشان وأنجوشيا، التى خرج منها أكثر من مبايعة لزعيم الدولة «أبوبكر البغدادى»، وصار خط نقل المقاتلين منذ ذلك الحين يأخذ ذات الطريق الذى سلكه الشيشانى، حيث يتسلل القادمون من هناك إلى تركيا ومنها يدخلون إلى الأراضى السورية. لكن الذى ظل مسكوتاً عنه أن هذا التدفق كان يجرى تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية الروسية، التى قدرت حينها أنها تقوم بعملية «تنظيف» لمناطق القوقاز من أخطر العناصر التى شاركت فى الحروب الشيشانية، وأن ذهابهم للمحرقة السورية كفيل بالتخلص منهم بتكلفة رخيصة. الأبعد من ذلك، مثلت الرعاية التركية لهؤلاء القادمين من القوقاز عبر أراضيها، والذين دخلوا سوريا من بوابات المعابر التركية، خدمة أمنية تقدمها الأخيرة إلى الجانب الروسى، بل وتتنامى قيمة هذه الخدمة حين تزود موسكو ببعض المعلومات وبيانات ومواقع وجود هذه العناصر فى سوريا.
لاحقاً عندما وصلت روسيا إلى سوريا، تساءل كثيرون عن حجم المداهنة الكبيرة التى أبدتها تجاه تركيا، والتى بدأت بغضّ الطرف عن إسقاط طائرتها الحربية، وصولاً إلى انخراطهما معاً فى مسار آستانا وغيره، اليوم يتكشف بعض من نماذج التعاون الاستخباراتى المبكر بين البلدين، الذى كان عنوانه القوقاز والقادمين منها والذين زُرعوا بداخلها. الآن يبدو أنهم قد بدأوا يتحركون فى الاتجاه المضاد، وضد عدو يتشوقون لإيلامه أو إزعاجه على الأقل.