قرار تصفية وبيع شركة الحديد والصلب يتعارض تماماً بل ويتناقض جذرياً مع سياسات الدولة للنهوض بخطة تنمية الصناعة الوطنية. ولا يجدى حديث آراء أكبر أو أصغر استشارى فى العالم عن الشركة بأنه لا بديل عن التصفية والبيع، لكن فى الحقيقة حديث بيع المصنع واستغلال أرضه فى إقامة مدن سكنية هو ما يحتاج للنظر.
لا تنمية فى العالم من دون صناعات ثقيلة، والكلام عن تصفية الحديد والصلب متواكب معه كلام عن صناعة الألومنيوم أيضاً، يثير شهوة التساؤلات عن المغزى الحقيقى لما يجرى، وهل هناك التزام بخطة التنمية المطلوبة؟ وقبل كل ذلك ما دور وزير قطاع الأعمال العام؟ وهل مهمته الأساسية البحث عن مبررات للتصفية والبيع والتخلص من المشروعات الكبرى القائمة؟
صناعة الحديد والصلب الأساس الذى تقوم على أكتافه وتنهض بوجوده عشرات الصناعات الأخرى، وتمثل تصفية المصنع الحكومى فى هذا المجال كسراً لرأس رمح الصناعات الوطنية الثقيلة، وإضعافاً لدور الدولة فى الاستثمار بالقطاع الصناعى، ولا تجدى هنا أحاديث عن صناعات متوسطة أو خفيفة، فمن دون الصناعات الثقيلة سنلجأ لاستيراد احتياجاتنا من الخارج، بما يمثله ذلك من معانٍ باستنزاف عملات صعبة، ورفع فاتورة الاستيراد، وزيادة تكلفة العملية الإنتاجية، ورفع أسعار المنتجات على المستهلكين، فضلاً عن تأثير ذلك القرار على خطط استعادة صناعات وطنية أخرى كان مخططاً لها أن تتم، ولا أدرى كيف ستتم بعد هذا القرار، كما لا أظن أن الاعتماد على القطاع الخاص، ذى الإنتاج المحدد فى مسميات بعينها، كفيل بتلبية الاحتياجات المطلوبة لتنمية باقى القطاعات الصناعية فى البلاد، والمسألة ليست بأرقام الميزانيات، ولا بحجم الإنتاج فى السوق، إنما بالدور الاستراتيجى المطلوب.
من دون الصناعات الثقيلة لا مجال للحديث عن خطط تنمية مستقرة راسخة، فالتصنيع الثقيل أساس وقاطرة كل عمليات التصنيع الأخرى، والتى بدورها تسحب قطاراً طويلاً من العمليات الإنتاجية المتنوعة على مختلف المستويات، وهى بذلك تشكل عمليات تنمية متواصلة ومستقرة قائمة على ثوابت راسخة، بدلاً من الاعتماد على موارد مثل السياحة أو تحويلات الخارج أو قناة السويس أو الموارد الطبيعية، وكلها مصادر متغيرة غير مستقرة.
أسئلة كثيرة فرضت نفسها بعد إعلان تصفية وبيع مصنع الحديد والصلب، بكل ما يعنيه هذا القرار من معانٍ ومشاعر فى نفوس المصريين، وما يمثله من إحباط لمشاعر كانت تأمل فى المزيد من التصنيع الثقيل فى البلاد قاطرة التنمية الحقيقية، والحديث هنا لا يقتصر على مشاعر ومصالح 7500 عامل بأسرهم، وإنما يمتد إلى ملايين المصريين، الذين استبشروا خيراً وفرحوا وهللوا لاستعادة الدولة مسار التصنيع، واتخاذ خطوات جادة، وتدابير مؤثرة فى هذا الصدد، ليأتى قرار وزير قطاع الأعمال الأخير بمثابة طلقة فى سويداء قلب مشروع أساس التنمية الحقيقية، ويثير مخاوف عن مستقبل صناعات استراتيجية أخرى مثل الغزل والنسيج.
الهدم أسهل الوسائل لإراحة «الدماغ»، والبناء أصعب القرارات فى الحياة، قاعدة معروفة تأكدت معانيها فى قرار وزير قطاع الأعمال العام بخصوص مصنع الحديد والصلب، الذى قال عنه الوزير إنه أصعب قرار فى حياته المهنية، وهو بذلك يتهرب من قرار أصعب يتمثل فى دوره للبحث عن خطط بديلة لإنقاذ هذا الصرح الوطنى، وأكرر لا تجدى أبداً تصريحات من نوعية بحثنا فى كل الحلول ولم نجد بديلاً، أو من نوعية دراسات كثيرة انتهت إلى أن التصفية والبيع هما الحل، أو أننا نشعر بالأسى والحزن لاضطرارنا لهذا القرار.
الحاصل أن بيان الوزارة، أو ما أسميه محاولة تبرئة النفس، يدفعك وبشدة للمطالبة بمحاسبة كل من كان مسئولاً، كونه تسبب وآخرون فى عملية إهمال واسعة بالشركة ربما تكون مقصودة أو لأسباب مصالح خاصة، انتهت بالشركة إلى الوضع الحالى، إذ إن البيان وما فيه من معلومات يتحدث عن قصور وإهمال وتخاذل فى تنفيذ أو تطبيق مقترحات للنهوض بالشركة، دون الحديث عن أسباب ذلك والمسئول عنه، لينتهى الأمر تحت عنوان «عفا الله عما سلف»، ويكفى ما ورد فى البيان مما ذكرته الشركة الاستشارية الدولية عند استدعائها مجدداً بعد مرور 4 سنوات على دراستها الأولى لإصلاح أوضاع الشركة والنهوض بها، حيث قالت بـ«حدوث أضرار كبيرة فى الأفران نتيجة سوء التشغيل خلال الأربع سنوات، وعدم قدرة الاستشارى على تحديد حجم الضرر، وبالتالى سبل الإصلاح»، كما أشارت إلى مدى واسع جداً للاستثمارات المطلوبة.
مسألة الفشل أو النجاح مسئولية الإدارة، وتعاقب وتواصل سنوات الفشل والخسارة إدانة للإدارة العليا، وأعنى بها الحكومات المتعاقبة، التى فشلت فى اتخاذ قرارات صحيحة لإنقاذ واحدة من القلاع الصناعية الوطنية، وهى بالمناسبة جزء من تاريخ هذا الوطن ومسيرته ومعاركه على مدار عشرات السنوات، كانت خلالها فى صدارة أدوات إنقاذ الوطن.
هناك قرارات لا ترتبط بحساب الأرباح والخسائر، ولا تقوم على أساس الدراسات الفنية، وإنما هى قرارات ترتبط بالمصالح العليا من جهة، وبالاستراتيجية الوطنية للتصنيع من جهة أخرى، وقرار تصفية مصنع الحديد والصلب من هذه القرارات، التى تتطلب البحث الدائم عن الحلول للنهوض بها، بدلاً من الاستسلام لقرار التصفية بديلاً وحيداً، فقرارات التصفية والبيع لا تأتى إلا بالنتائج السلبية.