إننى من الجيل الذى نشأ على أغانى عبدالحليم حافظ وحب جمال عبدالناصر وزمن العمال والفلاحين حين يشدو «حليم» وجيلنا كله معه «يا سواعد عربية ونفوس حرة أبيّة ياللى على الجرار وأُدام لهاليب الصلب»! فى إشادة واضحة بمصنع الحديد والصلب، وكنا ونحن أطفال نركب مترو حلوان عبر المزارع آنذاك حيث لم تكن أحياء دار السلام والبساتين ووادى حوف موجودة، فقد كانت المسافة من مصر القديمة إلى المعادى ثم حلوان مباشرة، وكانت هذه الزراعة والصناعة كلها فى حلوان تعرفها من مداخن مصانع الصلب والنسيج والسكك الحديدية والأسمنت، وهذه قلاع عهد عبدالناصر، متجهين عبرها إلى الحديقة اليابانية وحديقة حمام حلوان وعيون حلوان الكبريتية، وكانت قصور وفيلات الباشاوات ما زالت موجودة تبهرنا بجمالها وتصميمها، وفجأة ظهرت مدينة سكنية باسم الحديد والصلب، وكانت المدينة مجرد ملحق لمصنع الحديد والصلب، ووجدنا صرحاً علمياً كبيراً تعاملت معه وأنا رئيس فرع إقليم القاهرة الكبرى بوزارة البيئة، وكان معهد بحوث الفلزات مُنشأ خصيصاً لمصنع الحديد والصلب وكان فيه فرن صهر حديد مصغر ومكامير نموذجية، وطبعاً كانت جبال فحم الكوك المخزونة خلف مصنع الحديد والصلب علامة على المصنع ومخزناً لخطوط الإنتاج وكان أقاربنا وجيراننا من المهندسين والعمال يفتخرون أنهم عاملون بمصنع الحديد والصلب، وأصبحت مكانة هذا المصنع كأنها معبد أو مسجد أو كنيسة كدنا نتعبد فيه من كثرة الفخر به ومن كثير ممن يعمل به، وجاءت فترة الخصخصة، وبدأ جيلى، بل أجيال سبقتنى ولحقتنى، يضع يده على قلبه أن يكون مصيره مثل مصير مصانع نسيج حلوان ومصانع سيارات نصر، أو حتى مصانع الأسمنت فى جنوب القاهرة الذى كان فخر الثورة، وشمال القاهرة فى شبرا الذى كان رمز الثورة، إذ أصبحا جزءاً من التاريخ لا مكان لهما فى عصر الثورة الإلكترونية والزمن منذ مصانع طلعت حرب حتى زمن الإنترنت والأبعاد الثلاثية، وبالتالى فإن النظرة الموضوعية مطلوبة.
بالنظرة الموضوعية فى ضوء أرقام المصنع ووزارة قطاع الأعمال العام، فقد صار مسار الناتج الإجمالى والدخل للمصنع من ١٣٥١ مليون جنيه عام ١٩٩٨ ثم ٥٨٣ مليوناً ١٩٩٩ ثم ٦٣٤ مليوناً عام ٢٠٠٠ ثم ٧٧١ مليوناً عام ٢٠٠١ ثم ٦١٠ ملايين عام ٢٠٠٢ ثم ١٤١ مليوناً عام ٢٠٠٣ ثم ٩ ملايين عام ٢٠٠٤ ثم ٤٣ مليوناً عام ٢٠٠٥ ثم ١٨٤ مليوناً عام ٢٠٠٦ ثم ٢٥٩ مليوناً عام ٢٠٠٧ حتى عام ٢٠١٨ بلغت ٩٠٠ مليون جنيه وفى عام ٢٠٢٠ وصل الناتج لانخفاض حاد جداً يلفت النظر، ماذا حدث؟!
وقد أعطت الحكومة فرصاً عديدة للمصنع ومحاولات مستميتة للإبقاء على المصنع فما باليد حيلة بعد تقادم التكنولوجية وتركيز حديد لا يزيد على ٥٠% والفرن الرابع توقف متكرراً بما يزيد على ٩٢% وزادت الطاقة الحرارية المطلوبة إلى ٤٤ مليون وحدة حرارية مقابل ٢٠ مليون وحدة حرارية لمصانع القطاع الخاص، وتمت الاستعانة بعدة مكاتب استشارية دولية كلها أجمعت على عدم صلاحيته للاستمرار، ومنهم الاستشارى العالمى تاتا ستيل وطلب تشغيل الأفران ٣ أشهر كاملة وفشل المصنع حيث اشتغلت الأفران تشغيلاً مستمراً ١٢ يوماً فقط.
وختاماً فإن الحكومة قامت بما تستطيع ولعلى أؤيد رأى رئيس لجنة الصناعة بمجلس النواب الصديق العزيز معتز محمود فى أن الملف يحتاج عقلانية وحقائق علمية ووثائق رسمية وملفات مدققة تدرسها اللجان المختصة والخبراء المتخصصون لا مجرد مشاعر وأغانٍ وأحلام فى زمن غير الزمن كمن يغنى لـ«عبدالمطلب» فى زمن عمرو دياب!