التقيتُ الزعيم السوفيتى ميخائيل جورباتشوف فى هولندا ربيع عام 2000. كان جورباتشوف يشارك فى المنتدى العالمى للمياه الذى انعقد فى لاهاى فى شهر مارس من ذلك العام، قام الدكتور إسماعيل سراج الدين بتقديمى إليه، وكان وقتها نائب رئيس البنك الدولى.
كانت قضية المياه قد تصاعدت على نحو غير مسبوق فى أواخر التسعينات من القرن العشرين. وقُبيل انعقاد منتدى لاهاى كان هناك الكثير من الملتقيات وورش العمل التى انعقدت لهذا الغرض، وقد شاركتُ فى اثنتيْن منها: واحدة فى القاهرة والثانية فى عمّان.
كنتُ وقتها أشارك فى كتابة «التقرير الاستراتيجى العربى» الذى يصدره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ«الأهرام»، وكانت قضية المياه قد صعدت إلى السطح، على ضوء عملية التسوية فى الشرق الأوسط.
اشتكى الفلسطينيون من سرقة إسرائيل لمياههم، كما اشتكى الأردنيون من عدم التزام إسرائيل ببنود المياه فى اتفاقية السلام بينهما «وادى عربية»، وطرح شيمون بيريز مشروع التعاون المائى بين إسرائيل وسوريا والسلطة الفلسطينية، دون ربط ذلك بمسارات التفاوض السياسية.
شارك «بيريز» فى مؤتمر لاهاى لعرض تلك الرؤية التى لقيت معارضة عربية واسعة، ذلك أن الرؤية العربية -ومن بينها رؤية القاهرة- كانت: السياسة قبل الاقتصاد، والوطن قبل المرافق.
قبل مؤتمر لاهاى بقليل زارَ جورباتشوف المنطقة العربية، والتقى عاهل الأردن الملك عبدالله الثانى، والرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود باراك. وطرح رؤية المنظمة الدولية التى يترأسها «الصليب الأخضر الدولى» على الأطراف الثلاثة.
كان ميخائيل جورباتشوف يرى احتمالات اندلاع حرب مياه فى الشرق الأوسط، إذا لم يتم الاقتسام العادل لمصادر المياه الشحيحة فى المنطقة.
نجحت منظمة جورباتشوف فى عقد لقاء بين مسئول سورى وشيمون بيريز على هامش المؤتمر، وهو اللقاء الذى أثار غضباً فى الإعلام العربى، لكن دمشق تجاهلت التعليق عليه.
كان وزير الرى المصرى المشارك فى المؤتمر هو الدكتور محمود أبوزيد. ولقد بدا منتدى لاهاى -أكبر منتدى عالمى للمياه حتى الآن- وكأنَّه منتدى دولى بقيادة مصرية.. حيث كان الدكتور أبوزيد رئيساً للمجلس العالمى للمياه، وكان الدكتور إسماعيل سراج الدين رئيساً للجنة الدولية للمياه فى القرن الحادى والعشرين.
صافحتُ الوزير أبوزيد فى مطار القاهرة قبل مغادرة مصر، وقلت له إننى زميل دراسة لنجله الدبلوماسى أحمد أبوزيد -سفير مصر فى كندا الآن- قال لى أنا أعرف.. أحمد حدَّثنى عنك. قلت له ضاحكاً: إذاً فأنا أريد مكانةً مميّزة فى أثناء المؤتمر، لا أريد أن أجلس على المنصة الرئيسية فى حفل الافتتاح، ولكن أريد أن أقابل كبار الحضور. قال لى: يمكنك لقاء أى أحد من دون واسطة، وسنكون كلنا معاً فى المكان نفسه، ويكفى أنك ترتدى لافتة المؤتمر لتلتقى من تشاء، يمكنك أن تلتقى ولى عهد هولندا، وميخائيل جورباتشوف، والكثير من سياسيى العالم. قلت له: شكراً.. لقد وجدتُ هدفى. إننى أريد لقاء جورباتشوف، لقد درستُ أفكاره وسياساته وأنا طالب فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وقد حانَ الوقت لأن أقابل التاريخ وجهاً لوجه.
كان المشهد الافتتاحى لذلك المؤتمر صاخباً للغاية. كان ولى العهد الهولندى «وليام ألكسندر» -الذى أصبح ملكاً لهولندا عام 2013- يتصدّر المنصة، وكان الوزير أبوزيد يلقى كلمته، داعياً إلى تجاوز الجوانب الفنية ووضع حلول سياسية. وإذْ فجأة ومن دون مقدمات.. اقتحمت أربع فتيات أوروبيات المنصة، ثم قمن بالتعرّى، بينما كتبنَ على أجسادهن عبارات «لا.. لخصخصة الأنهار».. «لا.. للاتجار فى حياة الناس».. «المياه للجميع».
كنتُ واحداً من الذين فاجأهم المشهد، لم أفهم بالطبع ما يجرى. ولمّا سألت دبلوماسيّاً عربيّاً يجلس إلى جوارى لم يعرف هو الآخر ماذا يحدث.
استغرق الاحتجاج الصادم أقل من نصف دقيقة، حيث صعد ضباط من الحرس الملكى المرافقين لولى العهد، وقاموا بتغطية المتظاهرات، وإنزالهن فى حسم وهدوء.
كانت تلك الواقعة عناوين الصحف الهولندية فى اليوم التالى، وقد عرفنا التفاصيل بعد نهاية الجلسة، وقال لى أحد الصحفيين اللبنانيين: إن هذا المشهد رغم عدم لياقته، قد نجحَ فى لفت النظر إلى ما يطرحه البعض فى هذا المؤتمر بشأن «خصخصة الأنهار».
كان هذا الطرح حاضراً بالفعل، ففى ورش العمل المصاحبة للمؤتمر.. تحدّث البعض عن ضرورة منح الأنهار الدولية للشركات الكبرى لإدارتها، والتعامل مع المياه باعتبارها ثروة شأنها شأن النفط والغاز تماماً. يجب قياس استخداماتها مثلما يقاس النفط بالبرميل، وإذا لم يكن لدى الدولة ما يكفى من المياه يجب منع الزراعة التى تعتمد مياهاً أكثر، حتى لو كانت من صميم احتياجاتها الغذائية.
كما عرض البعض أفكاراً بشأن «إيجار الأنهار» بنظام «بى أو تى»، وكان هدف هذا الاتجاه من التفكير على نحو عام، تسعير الأنهار، والنظر فى إدارتها اقتصادياً، وتوزيع صافى الأرباح طبقاً، للائحة الشركة القابضة للنهر!
كانت هذه الأفكار اليمينية المتطرّفة مجهولة لنا قبل احتجاج الفتيات، وإثارة الجدل بشأن مصطلح «خصخصة الأنهار».
لم يكن ذلك هو السياق الرئيسى بالطبع، بل كان السياق هو الإدارة الرشيدة للمياه، ومكافحة الفقر المائى ووضع حدٍّ لمأساة اللاجئين البيئيين، الذين غادروا موطنهم بسبب العطش والجفاف.
كان من بين ما قاله الدكتور إسماعيل سراج الدين فى المؤتمر أن عدد اللاجئين بسبب العطش قد وصل إلى 25 مليون لاجئ، وأنه قد يصل إلى 100 مليون بحلول عام 2025 ما لم يتوقّف الإفراط فى استخدام الأراضى والمياه، وإساءة ذلك فى بلدان أحواض الأنهار، وأنَّه يجب على العالم استعادة الأنهار المتضرِّرة، حيث إن أكثر من نصف أنهار العالم أصابها التلوث، أو نالَ منها الجفاف.
التقيتُ الدكتور إسماعيل سراج الدين فى أروقة المؤتمر، وكنتُ قبل ذلك بقليل عضواً فى الحملة المصرية لدعم ترشيحه لمنصب مدير عام اليونيسكو عام 1999. وقد كان ذلك سبباً فى حفاوته وحسن استقباله لى، رغم انشغاله، وإقبال الإعلام العالمى عليه.
من المفارقات فى هذا المقام أن خسارة الدكتور إسماعيل سراج الدين لمنصب مدير عام اليونيسكو كانت أمام الدبلوماسى اليابانى الشهير «كوتشيرو ماتسورا» الذى عمل سفيراً لبلاده فى فرنسا قبل الفوز بالمنصب. التقيتُ «ماتسورا» بعد ذلك بتسع سنوات فى باريس. قام الدكتور أحمد زويل -الذى كان يلقى محاضرة فى مقر اليونيسكو بباريس- بتقديمى إلى السيد ماتسورا. وكان من بين ما قلتُه له: لقد كنتُ عضواً فى الحملة المنافسة لكَ عام 1999، ولم أتوقّع أنْ ألتقى الرجل الذى هزمَنا، بعد أن قضى فى منصبه فترتيْن ناجحتيْن.
فى ديسمبر 2001، نشر ميخائيل جورباتشوف وكوتشيرو ماتسورا مقالاً مشتركاً فى صحيفة لوس أنجلوس تايمز، وفى المقال أشادَا بتوقيع الدول المشاركة فى منتدى لاهاى مارس 2000 على أنَّ حرية الوصول إلى المياه من الحاجات الإنسانية الأساسية، وأشارا إلى أنَّه يجب أن يكون النصّ «حرية الوصول إلى المياه جزء من حقوق الإنسان العالمية»، وحذَّرا من أن عدم الحصول على ما يكفى من المياه يجعل أمن العالم فى خطر.
فى عام 1993، أسَّس جورباتشوف منظمة «الصليب الأخضر الدولية» لمعالجة الآثار البيئية للحرب الباردة، وأصبحت قضايا المياه فى العالم على رأس أولوياته.
قلتُ للدكتور إسماعيل سراج الدين: أريد مساعدتك فى لقاء السيد ميخائيل جورباتشوف. توقعّت -بالطبع- أن يكون طلبى صعباً، وأن يكون الاعتذار الرقيق هو الإجابة الطبيعية. لكن الدكتور سراج الدين فاجأنى بالقول: تعال معى الآن.. سأعطى حديثاً لإحدى محطات التليفزيون، ثم أذهب إلى لقاء جورباتشوف، وأنا أدعوك لتناول القهوة معنا.
كان ذلك الجواب فوقَ ما تصوّرت، ولقد قمتُ بتكرار الشكر للدكتور سراج الدين على «قهوة جورباتشوف»، حين زُرتُه بمكتبة الإسكندرية فى ما بعد.
كان «جورباتشوف» -بوحمتِه الشهيرة التى تتصدَّر جبينه- جالساً على منضدة دائرية وإلى جواره أحد مساعديه وسيّدة للترجمة. نهض «جورباتشوف» لتحية «سراج الدين»، ولما تقدمتُ لمصافحته قدّمنى «سراج الدين» بالإنجليزية قائلاً: «سيد جورباتشوف.. هذا أحمد المسلمانى كاتب من مصر، لقد دعوته لتناول القهوة معنا».
كانت المرافقة لجورباتشوف تترجم من الروسية إلى الإنجليزية، وفى بعض الأحيان كان الدكتور سراج الدين يعيد توضيح الجوانب الفنيّة لى باللغة العربية. تحدّث جورباتشوف بارتياح عن نجاح منتدى لاهاى، سواء من حيث الحضور، أو من حيث الاستعداد العالمى للتجاوب مع قضايا المياه.
كان من بين ما قاله جورباتشوف: «لحسن الحظ أن ولىّ عهد هولندا خبير بقضايا المياه».. «أسباب الحروب القادمة لن تكون كالأسباب السابقة متعلقة بالأيديولوجيا والأفكار، بل ستكون فى أغلبها حروباً على الطعام والشراب».. «الشرق الأوسط وأفريقيا الأكثر عرضة لحروب المياه، وتسويف الحلول المائية من دون التفاوض سيؤدى إلى مشكلات أكبر».. «مشروعات السدود على الأنهار يجب ضبطها والاتفاق بشأنها، لأنها قد تؤدى إلى إعادة توزيع غير عادل لاقتسام المياه، وهنا لا يجد المتضررّون طريقاً آخر غير الحرب».
كان جورباتشوف يحتسى القهوة الهولندية وقطعاً من حلوى الوافل الشهيرة، وقد رأيتُ أنْ أتجاوز قضايا المياه لأسأله عن شعوره كآخر زعيم للاتحاد السوفيتى، وكوْنه الرجل الذى قام بتغيير النظام العالمى وحركة التاريخ. أجاب جورباتشوف بأنّه يشعر بارتياح شديد لدوره التاريخى، وأنه لا يزال منحازاً لأفكار الحرية والديمقراطية، غير أنه أراد أن يحافظ على الحرية والإمبراطورية معاً. وقد فشل فى ذلك، حيث استغل خصوم الدولة مساحة الحرية فى تفكيك الإمبراطورية، ثم قال: «الآن يمكننى أن أحدد الأخطاء، وما كان يتوجب فعله لمنع ذلك. لكن وقتها كانت رؤية ذلك أمراً صعباً للغاية».
لقد مرّت سنوات على ذلك اللقاء الذى لم يغادر ذاكرتى قط. كان جورباتشوف يجوب العالم وسط حاشية كبيرة، وهو فى ربيع 2021 يحتفل بعيد ميلاده التسعين، من دون رفاق أو عائلة.. ذلك أنّه قضى فى المستشفى عام 2019 بأكمله، ثم إنه كان يخشى مداهمة فيروس كورونا فى 2020، فأصبح يقيم وحيداً فى المنزل الحصين الذى يقع فى إحدى ضواحى موسكو.
فى أبريل 2020، قال جورباتشوف للإعلام الروسى: «لقد خسرتُ ثلاثين كيلوجراماً من وزنى. وأخشى على حياتى من الجائحة، لقد عانيتُ فى طفولتى من مجاعة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكننى لم أواجه وباءً كهذا من قبل».
وُلد ميخائيل جورباتشوف فى مارس 1931، درس القانون فى جامعة موسكو، وفى عام 1985 أصبح زعيماً للاتحاد السوفيتى، وظل فى منصبه حتى استقال فى ديسمبر 1991 عقب انهيار الدولة.
وفى 21 ديسمبر 1991، كانت مقدمة نشرة الأخبار فى التليفزيون الروسى كالتالى: «مساء الخير.. هذه نشرة الأخبار، الاتحاد السوفيتى لم يعُد موجوداً بعد الآن».
أصبح جورباتشوف رئيساً بلا دولة، وإمبراطوراً بلا إمبراطورية، وفى 25 ديسمبر 1991 أعلن استقالته، وأنزل العلم السوفيتى من فوق الكرملين.
تشكّلت صورة جورباتشوف فى الغرب «رجل الحرية الذى منح شرق أوروبا وآسيا الوسطى الاستقلال والكرامة»، وتشكَّلت صورته فى بلاده «الرجل الذى أضاع الاتحاد السوفيتى».
فى أبريل 2014، تقدم خمسة نواب روس منهم نائبان من حزب بوتين بطلب محاكمة جورباتشوف بتهمة خيانة الوطن، وتفكيك الاتحاد السوفيتى.
فى مواجهة تيار التخوين الذى قاده الماريشال يازوف، آخر وزير دفاع للاتحاد السوفيتى، والذى حاول الانقلاب على جورباتشوف عام 1991. اعتادَ جورباتشوف تعزيز تيار حسن النوايا، وكثيراً ما تضمّنت محاضراته وحواراته الإشارة إلى سوء التقدير وخطأ الإدارة، فضلاً عن خيانة الآخرين.
وفى أبريل 2020، قال جورباتشوف لوكالة نوفوسيتى للأنباء: كانت الإصلاحات مؤلمة وصعبة، وتمّ ارتكاب أخطاء جسيمة. لم يكن لدينا لا أنا ولا فريقى جدول للتحوّلات التى بدأت فى البلاد. لكن كان يستحيل العيْش وفقَ ما كان موجوداً، لقد أقرّت قيادة البلاد بالإجماع أنه لا بد من إجراء تغييرات».
هنا يكمن الخطأ الكبير لجورباتشوف، لقد بدأ عملاً لم يكن يعرف كيف يمكن أن ينهيه، وأتذكّر هنا نصيحة ثمينة وجَّهها لى الفريق سعد الدين الشاذلى - فى أثناء تحريرى لمذكراته - قال: «إذا فتحت قوساً، لا تنسَ أن تغلقه. وإذا بدأت خطّة لا بد أن تكون النهاية حاضرة قبل البداية. إن إغلاق القوس أصعب كثيراً من فتحه، والنهاية الصائبة أكثر مشقّة من البداية الصحيحة».
استمر جورباتشوف فى اعتماد نظرية «الجلاسنوست» والحديث «بصراحة» عمّا جرى فى أثناء حكمه، كلَّما تحدث إلى وسائل الإعلام. وحين سألته محطة CNN فى ديسمبر عام 2019 عن حادث انفجار مفاعل تشيرنوبل فى عهده.. قال: «يسألوننى لماذا تأخرتم فى الإعلان عن حادث انفجار تشيرنوبل لعدة أيام.. السبب ببساطة: أننا لم ندرك ما الذى وقع.. لقد كنتُ صامتاً لأننى لم أعرف ماذا حدث».
يروى جورباتشوف للإعلام الروسى المزيد عن الواقعة: «تم إيقاظى من النوم مبكراً يوم 26 أبريل 1989، وقيل لى لقد حدث حريق كبير، ووقعت كارثة فى المفاعل النووى فى تشيرنوبل، لكن المفاعل ظل سليماً. كان الذهول هو أول ردّ فعلٍ لى. وقلت لهم: كيف يمكن أن يحدث ذلك. شكّلت لجنة لإدارة الأزمة، وقد انتظرتُ ثلاثة أسابيع حتى أعرف كل التفاصيل، وأتحدث إلى الشعب. لقد كان هذا خطأً كبيراً. لقد هزّتنى هذه الكارثة شخصيّاً، وخلقتْ لدىّ إدراكاً جديداً لكوكب الأرض، ومستقبل الحياة فى عالمنا».
فى ديسمبر 2020، دعا جورباتشوف الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن إلى إنهاء الصراع مع روسيا، وتحسين العلاقات بين واشنطن وموسكو، وقال: لقد التقيتُ بايدن وهو نائب الرئيس، وآمل أن يفعل ذلك. لكن جورباتشوف لا يزال يردِّد «لو كان الاتحاد السوفيتى موجوداً لكان العالم أكثر أمناً واستقراراً».. «إن عودة الاتحاد السوفيتى ممكنة، لكن ذلك قد يستغرق وقتاً طويلاً».
بينما يستعد جورباتشوف للدخول إلى بدايات العقد العاشر من حياته.. قامت ألمانيا عام 2020 بافتتاح نصب تذكارى له بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على توحيد ألمانيا، كما عرض مسرح الأمم فى موسكو مسرحية بعنوان «جورباتشوف» تروى تاريخه السياسى وتاريخ الاتحاد السوفيتى المعاصر من خلال قصته مع زوجته رايسا جورباتشوف، وهى المسرحية التى قام بالتمثيل فيها ممثلان اثنان فقط، ممثل يقوم بدور جورباتشوف، وممثلة تقوم بدور رايسا. وقد حضر جورباتشوف عرض المسرحية نوفمبر 2020، وهو يرتدى الكمامة خوفاً من الجائحة.
عاشَ جورباتشوف فخوراً بإنجاز اتفاقيات الحدّ من الأسلحة النووية، وإنهاء الحرب الباردة، ومنح الحرية للكثير من الدول والشعوب.
تقاضى آخر زعماء الاتحاد السوفيتى أموالاً جيّدة من إلقائه المحاضرات حول العالم، وقد وصل مقابل إحدى محاضراته إلى قرابة نصف المليون دولار.
ولمّا ظهر جورباتشوف يأكل البيتزا مع حفيدته فى إعلان تجارى لصالح «بيتزا هت» عام 1997، عادت دوريّة فورين بوليسى الأمريكية الشهيرة وانتقدته عام 2019. وقد ردّ جورباتشوف: «كان دخل الإعلان الترويجى لصالح صندوق جورباتشوف، وأنشطته الإنسانية».
ظهرَ جورباتشوف فى السنوات الأخيرة وهو يتكئ على عصاه، ويقول: «انظروا.. إنَّنى أحتاج الآن إلى ساقٍ ثالثةٍ حتى أتمكن من السير».
إن قراءة جورباتشوف هى قراءة لجزء مهم من التاريخ، وقد كان لقائى به فى لاهاى فى ذلك الربيع المهمّ من عام 2000 دافعاً لاهتمامى بالتاريخ الأيديولوجى للعالم، وبحركة صعود وهبوط القوى العظمى.
لقد كنتُ مديناً للدكتور إسماعيل سراج الدين الذى قدّمنى إلى جورباتشوف، ثم أصبحتُ مديناً لجورباتشوف.. الذى دفعنى اللقاء به إلى قراءة متواصلة لجوانب كثيرة من تاريخ العالم المعاصر.
إن التاريخ هو معمل السياسة، ومن دون معرفة ما جرى.. لا يمكن معرفة ما يجرى.
النص جزء من فصل فى كتاب -تحت الطبع- للمؤلف
بعنوان «قريباً من التاريخ».