منذ نحو أسبوعين تقريباً، قام رئيس الجبهة التركمانية العراقية النائب أرشد الصالحى، برفع شعار «الذئاب الرمادية» خلال زيارته إلى المقرات التابعة لقوات «درع كركوك» و«فوج شهداء التركمان» بمحافظة «كركوك». وتشارك مع «الصالحى» عدد من عناصر الأمن المحلى رفع ذات الشعار أمام كاميرات توثيق الزيارة الموسعة، التى جرت تحت عنوان الاطلاع على الأوضاع الأمنية وشد أزر القوات المحلية لمحافظة كركوك. لكن مشهد وصور النائب التركمانى وهو يرفع شارة «الذئب الأغبر» أثارت حفيظة المكونات القومية الأخرى فى المحافظة، بالأخص العرب والأكراد، الذين اعتبروا هذه الزيارة وما صاحبها خطوة استفزازية من قبَل التركمان.
هذا الطقس التركى الأصل؛ الذى يتمثل فى تأكيد صاحبه على الانتماء إلى نوع متطرف وعنصرى للقومية التركية، ظهر خلال العقد الماضى فى أكثر من موضع ومناسبة، لا سيما مع التغول والانخراط التركى فى العديد من ملفات الإقليم، والذى لعبت فيه أنقرة بالأخص فى بلدان المشرق العربى على المكون التركمانى باعتباره ذريعة يسهل استخدامها لتبرير التدخل فى شئون الغير، فضلاً عن اختراق هذا المكون بصورة مكثفة، بحيث يسهل استخدامهم لتنفيذ مهام ترتبط بأجندة التمدد التركية. لكن يظل العراق يمثل نموذجاً متقدماً لهذا الاستخدام، فهو كفيل بإشعال نيران تضطرم بالأساس فى جنبات مناطق التماس الحرجة بالعراق، تأتى فى مقدمتها بالطبع محافظة ومدن «كركوك»، التى لم تتجاوز منذ 2003 وحتى الآن مسمى «المتنازع عليها». فهى تضم خليطاً من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين، وإن ظلت طوال سنوات على وضع متأرجح لم يحسم أمره بعد، بين ضمها أو أجزاء منها إلى حكومة المركز ببغداد، وبين إلحاقها بإقليم «كردستان العراق» المتمتع بحكم ذاتى مستقر، وبصلاحيات استقلال تشريعى وتنفيذى واسع.
هذا هو حجمهم الطبيعى داخل المكون العراقى الكبير المزدحم بالعرقيات والطوائف، لكن بطبيعة الصخب والبروباجاندا التركية يبدو المشهد عادة فى تفاصيله معبراً عن صورة مغايرة للحقيقة. لهذا قد يكون اللجوء إلى شارة «الذئاب الرمادية» من أدوات تزييف الواقع، وإن ظل فى طياته يعد أخطر تلك الأدوات على الإطلاق، فهذه الحركة العنصرية التى ظهرت للمرة الأولى بأربعينات القرن الماضى، فى الخطابات التى وجهها «نيهال أستيز»، الكاتب التركى الذى تعتبره الحركة المنظّر الفكرى لها، إلى رئيس وزراء تركيا آنذاك «شكرى أوغلو»، محذراً من أن تركيا تبتعد تدريجياً عن الأيديولوجية القومية التى أرساها كمال أتاتورك. ألقت السلطات القبض على «أستيز» وعدد من أتباعه باعتبارهم مروجين لأفكار عنصرية، ضمن هؤلاء أحد الضباط يدعى «ألب أرسلان توركيش»، اعتبر فيما بعد «الأب الروحى» للحركة القومية. وتمكن من خلال كتابه الشهير «الأنوار التسعة» الذى استند إلى مبادئ «أتاتورك»، من تأصيل المبادئ الرئيسية للحركة القومية، لكن بالرغم من اقتصار مبادئ «أتاتورك» على ستة فقط هى الجمهورية، والشعبوية، والقومية، وسيطرة الدولة، والعلمانية والثورية. فإن كتاب «توركيش» توسّع عنها ليجعلها تسعة مبادئ شاملة هى القومية، والمثالية، والأخلاقيات، والعلمانية العلمية، والاشتراكية، والفلاحية القروية، والتنموية، والشعبوية، والصناعية التقنية. ومن ثم انخرط لاحقاً فى تأسيس ورئاسة حزب «الحركة القومية» عام 1969، حيث رفع الحزب منهج «طريق القومية» باعتباره النموذج الأنسب للتنمية من أجل الأمة التركية، ممثلاً لطريق ثالث وقت تنازع كل من الرأسمالية والشيوعية حينذاك.
إبان إرهاصات الحركة القومية طوال حقبة الستينات وما سبقها؛ قبل أن تتحول الحركة إلى حزب رسمى، انخرط «توركيش»، الضابط العامل بالجيش التركى، فى تأسيس منظمة «الذئاب الرمادية»، لتمثل الجناح المسلح للحركة القومية المتطرفة وتعمل على توحيد جميع «الشعوب» التركية فى دولة واحدة، بحسب أدبيات المنظمة والتى تبناها الحزب لاحقاً. مع إيمان المنظمة المطلق بعقيدة «التطهير العرقى» لضمانة النقاء التركى، ما جعل المنظمة تضمر عداءً أصيلاً ضد كل من الأكراد والأرمن اللذين شكلا مكوناً تاريخياً لمناطق وأراضٍ كثيرة، داخل طيات وعلى تخوم النسيج التركى، ما دفع المنظمة الوليدة إلى التورط فى ارتكاب العديد من المذابح المسجلة باسمها. ضمن سجل «ألب أرسلان توركيش» الوظيفى أنه تولى لسنوات مسئولية ضابط الاتصال مع النازيين فى تركيا، ويعود لتلك الفترة تشرّب الضابط التركى لأفكار التفوق العرقى للقومية التركية، حيث ظل طوال فترة تأسيس الحزب يستشهد فى خطاباته بجمل ومقاطع من كتاب «كفاحى» للزعيم الألمانى أدولف هتلر. وعادة مثل تلك النماذج سرعان ما تلتقطها أجهزة الاستخبارات لاستخدامها، وهو ما لم يغب عن أعين الاستخبارات الأمريكية التى نجحت فى تجنيده لصالحها، وقت انخراطها فى تأسيس «جيش سرى» فى تركيا لمناهضة الشيوعية. وبالفعل كان أول بزوغ لنجم «توركيش» وسبب اعتقاله وآخرين تنظيمه لمظاهرة كبيرة تندد بالشيوعية، لتبدأ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فى التعامل معه بدءاً من العام 1948، بحسب وثائقها عن تلك الفترة فى حربها ضد الاتحاد السوفيتى.
مع أوائل حقبة الخمسينات استقر وضع «توركيش»، الضابط المتطرف بالجيش التركى، وبدأت الاستخبارات الأمريكية تنسج له العلاقات مع وزارة الدفاع «البنتاجون»، وقت تأسيس «حلف الناتو». ليمضى الأعوام الأولى منها متنقلاً ما بين تركيا والولايات المتحدة، فى البعض منها تحت ستار المأموريات الوظيفية وأخرى كزيارات خاصة، وإن ظلت جميعها لها صبغة استخباراتية تمثلت سريعاً فى طلب الولايات المتحدة بتعيينه فى واشنطن ضمن قوات «حلف الناتو»، ليمضى فيها ثلاث سنوات كاملة من عام 1955 وحتى 1958. وظلت تلك الفترة، وفق غالبية من كتب وأرّخ للحركة القومية التركية، هى سنوات صقل وتشكيل القيادى التركى المتطرف الذى سيقود فرق العمل الاستخباراتى الأمريكى، بالصفوف الأولى لصد المد الشيوعى عن العرين الأوروبى. وقد استخدمت الاستخبارات الأمريكية هذا العنصر التركى بعد أن ساهمت فى أن يشتد عوده العسكرى ونفوذه داخل الجيش التركى، ليعود «توركيش» إلى أراضيها لاحقاً ويقوم بتنفيذ المفاجأة التى لم تمثل دهشة كبيرة رغم بشاعة وفداحة ما جرى فيها.. وعن هذا الأمر نستكمل فى الأسبوع المقبل بمشيئة الله.