إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون الصحف الإلكترونية ومواقع «السوشيال ميديا» بانتظام، فلا شك أنك قرأت عشرات الأخبار التى تعرض ما قاله أحد مذيعى برامج «التوك شو» الشهيرة بخصوص وقائع سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية مهمة، بل لعلك أيضاًً طالعت الأخبار التى تنقل آراء بعض هؤلاء المذيعين الخاصة فى شئون الرياضة والفن والجرائم.
يُعد ذلك «إبداعاً» مصرياً خالصاً؛ إذ يتم توظيف مذيعى تلك البرامج باعتبارهم مصادر وأصحاب رأى، ويجتهد الصحفيون فى المواقع الإخبارية لتقصى آرائهم والتعرف إلى توجّهاتهم لحظة بلحظة، لنقلها إلى الجمهور الذى يتفاعل معها بكل حفاوة واهتمام.
يشير هذا «الإبداع» المصرى الخاص إلى حالة إعلامية ومجتمعية فريدة، يلعب خلالها الإعلامى دور المُنظّر وصاحب الرأى، بدلاً من أن يقوم بدوره الأساسى والجوهرى والمطلوب.. أى أن ينقل لنا بأقصى قدر ممكن من الإحاطة والشمول والتوازن والدقة ما يقوله أصحاب المصالح والآراء عن القضايا محل الاهتمام.
كلما تراجعت السياسة فى مصر ازدهر التليفزيون؛ إذ يعوض الناس ما يفتقدونه فى المؤسسات السياسية والمجتمع المدنى والمجال العام بالجلوس مساء للاستماع إلى مذيعى «التوك شو».
الحراك الاجتماعى والسياسى فى بلد كبير مثل مصر يتم اختزاله فى قفص ضيق تتناوب عليه بضع شاشات؛ فلما تضخم دورها، وأحس القائمون عليها بثقل النفوذ والتأثير، راح بعضهم يضع الأجندة التى تناسب أهواءه، ويحرّف اتجاهات الجمهور وفق رؤاه، ويُصدر الأحكام ويروّج الانطباعات التى تحقّق مصالحه وتتجاوب مع انحيازاته، مهما كانت ملتبسة ومثيرة للجدل.
وفى هذا الإطار، يبرز عدد من المذيعين، مستفيدين من هشاشة المؤسسات الإعلامية، ومستندين إلى مزايا النجومية، ومعتمدين على ثقة الجمهور «الطيب» وميله إلى الاستسهال والانبهار بالشخص على حساب المضمون، وتفريط بعض أطقم التحرير والمعدين فى استحقاقات أدوارهم وواجباتهم نحو وظائفهم، وضيق أفق المعلنين وتكالبهم على الأسماء البرّاقة بصرف النظر عما يقدمه أصحابها من مضمون.
وبسبب تراجع الصناعة وعدم خضوعها لاعتبارات الجودة المرعية؛ يتدخّل المذيع النجم فى اختيارات القصص وانتخاب المصادر ويوجّه الحوار ويستأثر بالرأى ويخوض المعارك، باعتباره صاحب الحجّة والقول الفصل والمنزّه عن الشبهات والخطأ.
تتّسع تلك الممارسة لتشمل عدداً كبيراً يقدمون برامج الأحداث الجارية فى وسائل الإعلام المصرية الخاصة، بما يعنى أن الأمر يشمل المذيعين المشهورين الذين يتصدّرون قوائم المشاهدة، وهؤلاء المغمورين الباحثين عن موطئ قدم، كما يشمل هؤلاء المتعلمين تعليماً جيداً متخصصاً، وهؤلاء الذين لم يحصلوا على حظ مناسب من التعليم.
تذكّرنا هذه الحالة التى وصلنا إليها بحالة الإعلام الوطنى فى مطلع القرن الماضى، حين كانت الإذاعات الأهلية تعمل من دون ضابط ولا رابط، حيث أدّى الانفلات وغياب القواعد إلى إطلاق إذاعات خاصة امتلكها تجار وسماسرة وبعض أصحاب الأنشطة المشبوهة، وهى الإذاعات التى حوّلت الأثير لاحقاً إلى ميدان للسباب والطعن فى الأعراض وتسهيل ارتكاب الجرائم، لأنها وظّفت أفراداً غير مهنيين فى وظيفة المذيع.
يتّفق عدد من عقلاء المجالين العام والإعلامى على خطورة هذه الممارسات القبيحة والمنفلتة، لكنهم لا يذكرون بوضوح أن السّبب فى تفشى تلك الظواهر الخاطئة هو تخلينا عن إرساء قواعد مهنية رشيدة ملزمة، تحول دون خلط المذيعين فى برامج الأحداث الجارية بين الرأى والخبر.
فى برامج الأخبار والأحداث الجارية، على القنوات العامة، أو القنوات التى تنسب إلى نفسها الالتزام بالقواعد المهنية، يجب ألا يقوم المذيع باستغلال الشاشة لعرض آرائه وخوض معاركه وإملاء أوامره، ولكن يجب أن يعرض قصصاً وأخباراً ووجهات نظر متباينة ومتوازنة على الناس.
يستلزم علاج الأزمة الإعلامية الراهنة أن نفصل بين دور المذيع وأدوار أصحاب الرأى والمتخصصين وذوى المصلحة، وأن نغل يد المذيعين عن استخدام منابر الإعلام فى معاركهم الخاصة، وأن نتوقف عن دعم الممارسات الحادة والمشينة عبر مشاهدتها، وقراءتها، وإعادة بثها والترويج لها.
فحتى هذه اللحظة تخفق صناعة الإعلام فى مصر، فى مجملها، فى الإجابة عن السؤال: «من الإعلامى؟»، وفيما إذا كان هذا الأخير بشراً يؤدى وظيفة، أو كائناً فائقاً يعرف الأسرار، ويحتكر الحقيقة، ويُعلّم الجمهور، ويعيش على الإلهام.
بسبب تضخم ذوات بعض زملائنا المذيعين، وغياب شروط الصناعة الحيوية، توقف نفر منهم عن محاولة تقصى الأخبار، أو نقل الآراء، أو تقديم الشرح المستند إلى أدلة، أو توفير الفرص للأطراف المنخرطة فى القضايا للتعبير عن مواقفها. وراح هؤلاء الزملاء بدلاً من ذلك يروون الوقائع من وجهة نظرهم، أو يختلقونها اختلاقاً، ويشوهون الحقائق، ويمطرون الجمهور المسكين بالتحليلات المستندة فقط إلى خبراتهم أو مصالحهم الخاصة.
ليست لدينا مؤسسات إعلامية تضع أدلة مهنية لتغطية الأحداث المهمة، ولا نمتلك وحدات لمراقبة الجودة ورصد الأخطاء ومساءلة المذيعين النجوم.
لا يهتم القائمون على صناعة الإعلام فى مصر سوى بالتعاقد مع هذا المذيع النجم أو ذاك، لكن أحداً لم يعطِ اهتماماً، فى معظم الأحيان، للإنفاق على الإعداد، وتوفير المواد التليفزيونية الكافية، وإجراء البحوث المعمّقة، واستخدام أدوات التلفزة الفريدة.
ثمة عشرة برامج «توك شو» شهيرة ورئيسية فى مصر، يمكننا ببساطة أن نحول معظمها إلى برامج إذاعية، لأنها لا تستفيد من إمكانيات التليفزيون المعروفة التى يجب أن تنطوى على محتوى بصرى ملائم، يشمل وسائل عرض وإبراز معتادة فى صناعة التلفزة، ويلجأ إلى عرض التقارير الميدانية الشارحة.
معظم المالكين يفكرون فى «شغل الهواء» عن طريق المذيع النجم، ولا يبذلون جهداً لتطوير صناعة أخبار معيارية، لا يمكن أن تقوم منظومة إعلامية بدورها من دونها.
بسبب أنماط الأداء الإخبارية المفتقدة لمعايير الدقة، والتوازن، والموضوعية، والاستناد إلى دلائل وبراهين، والنّسب إلى مصادر معلنة وواضحة، والاختيار الجيد للمصادر، والعمق، ستتراجع ثقة الجمهور فى منظومة الإعلام الوطنية.
لدينا بعض البرامج التى تعتمد آليات تشغيل أقرب إلى المهنية؛ حيث تقدم محتوى بصرياً، وتعتمد على مصادر يتم اختيارها بعناية، وتخضع لسياسة تحريرية يقوم عليها إعلاميون محترفون، ولا تمنح المذيع النجم سلطة استخدام الهواء كما يحلو له، وهى برامج جديرة بأن نهتم بها ونسعى إلى تعزيزها وزيادة عددها.