مصر بخير، السودان بخير، إذن النوبة بخير. لماذا؟ لأن النوبة مصرية سودانية. لأن النوبة هنا وهناك. النوبة جزء من كل، والكل يتمثل فيها كما يتمثل فى بقية ثقافتهما المتنوعة المتكاملة، وهكذا يجب أن تكون الأوطان الرحبة. تنوع ثرى فى اتحاد، تنوع التعددية فى الوحدة. قلتها فى اتحاد أدباء السودان بالخرطوم، كما قلتها فى أنحاء عديدة بمصر، السودان بخير، مصر بخير، إذن النوبة بخير. لأن نوبيى مصر يهتفون لمصرهم ويعتزون بمصريتهم، وأول من هتف (تحيا مصر) فى لجنة الخمسين كان ممثل النوبة. والنوبيون المصريون شاركوا فى الأحزاب المصرية، وكان الزعيم مصطفى النحاس قد أطلق على جدى لأمى محمد مراد لقب خطيب إدفو المفوّه، ومحمد مراد كان مقيماً بإدفو. والنوبيون لهم تاريخ مع حزب الوفد. والنوبيون من أهم المؤسسين للأحزاب اليسارية المصرية، ودخلوا المعتقلات لسنوات طويلة من أعمارهم، وصمدوا للتعذيب المجرم مع غيرهم من أجل مصر عموماً وليس من أجل النوبة خصوصاً. ومن أهم القيادات اليسارية المصرية زكى مراد وخليل قاسم ومحمود شندى ونور جاسر وغيرهم. وإن كان نوبيو مصر يعتزون بوطنهم المصرى، ويعتبرون السودان بلدهم الثانى المكمل لمصرهم، فنوبيو السودان يعتزون بسودانهم، ومصر هى بلدهم الثانى المكمل لسودانهم. واليساريون المصريون كما عرفوا زكى مراد وخليل قاسم وغيرهما، يعرفون جيل عبدالرحمن الشاعر النوبى السودانى الذى حضر لمصر طفلاً وصار سودانياً مصرياً، وزامل الشاعر السودانى المصرى الليبى السكندرى محمد الفيتورى. وأكيد أدباء القاهرة يعرفون الأديبة السودانية المصرية النوبية زينب الكردى. وشبابها كان بالإسكندرية. وزينب هى زوجة فنان الكاريكاتير السودانى المصرى حسن حاكم، وابنتاهما هما الفنانتان ياسمين ورباب حاكم وأصبحت القاهرة مقرهما الدائم. وكان بيت حسن وزينب يشع دفئاً إنسانياً ونوراً فنياً. كان ملتقى للفنانين المصريين والسودانيين والعرب بمختلف مشاربهم، وكان مفتوحاً لكل مغترب لا يجد مكاناً للمبيت والإعاشة وإن بقى لأشهر، وكلامى هذا ليس به أيّة مبالغة، ولنسأل فنان الكاريكاتير السكندرى سمير عبدالغنى وهو أحد تلاميذ حاكم الكثيرين.
وكما قدم النوبيون الكثير لعدد من الأحزاب المصرية، فإن النوبيين فى السودان هم من أنشأوا كل الأحزاب بالسودان يمينها ويسارها، فنوبيتهم جانب مهم من سودانيتهم، كما أن النوبيين فى مصر نوبيتهم جانب مهم من مصريتهم. لنلاحظ التكامل الشعورى النوبى العميق الذى يوحد ولا يفرق، يحب ولا يكره، ينظر للأفق الواسع الرحب المانح خيراً للشعبين، والذى هو طيب سلس إيجابى فى انتشاره بالبلاد العربية، ولهذا محبة النوبيين هناك واضحة، فأينما يكون النوبى، يقدم الخير ويرجوه، ورغم آلام التهجيرات الأربعة المفزعة، فلم تدخل المرارات قلوبهم، وإن تم رصد غضب من استمرار الاتهامات الظالمة والإهانات المتكررة.
وإن تكلمت فى مقالى السابق عن الأخوين أحمد ومحمد فتحى إبراهيم، اللذين تعلما فى الإسكندرية، على أن أبين أن محمد فتحى هو مانح الجائزة السنوية للحاكم الرشيد فى أفريقيا، وفاءً لأفريقيا التى جمع فيها ثروته. وأضيف هنا أن صاحب فكرة اليوم النوبى العالمى، هو المفكر النوبى السودانى محمد سليمان ولياب، وهو العاشق لمصر والذى مُنح فى اليوم المذكور درعاً تكريماً لإسهاماته الواضحة فكراً مكتوباً ومنطوقاً وعملاً مستمراً، وأيضاً تقديراً لحبه لسودانه ومصره. علماً بأن أبناءه الثلاثة تعلموا فى القاهرة، وابنتيه تخرجتا فى كلية طب عين شمس، وابنته الطبيبة ماريهام تسلمت الدرع نيابة عن والدها. وعشق النوبيين للسودان ومصر يحتاج إلى دراسات فهى عميقة ومتطلعة للخيرات.
أرصد فى هذه الفقرة القليل من عشق النوبيين السودانيين لمصر. الفنان النوبى متعدد المواهب محمد وردى من أهم مطربى السودانى. وعندما اعتقله جعفر نميرى، تدخل هيلاسلاسى إمبراطور إثيوبيا للإفراج عنه بصفته مطرب أفريقيا. وحين دعته إثيوبيا ليغنى، لم يجدوا مسرحاً يتسع لمحبيه، فغنى فى استاد أديس أبابا. ومحمد وردى تعلم سنوات فى الأزهر واستقر بالقاهرة لسنوات طويلة وأولاده بنين وبنات قضوا بمصر مراحل عديدة من حياتهم، والحفلات التى أقامها بالقاهرة والإسكندرية وغيرها لا تعد ولا تحصى. وقال لى صديقى الدكتور محمد ضياء مهران وهو سكندرى صعيدى من قرية «البصيلية» شمال أسوان، إن المطرب الشعبى فى قريته حتى الستينات كان محمد ورْدى!.
لنقرأ أبياتاً من الشاعر النوبى المصرى عبدالرحيم إدريس، الذى كان نائباً برلمانياً لثلاث دورات عن منطقة محرم بك بالإسكندرية. لنسمعه يتغنى بمصر والسودان فى قصيدته «واديك يا نيل» يقول: (واديك يا نيل لن تنحلّ وحدته /وكيف وهى عقيدات وإيمان/ما مصر ما النّوب ما السودان غير/حمى النيل رمز لعلياها وعنوان/والأهل أهلك والآمال واحدة /عند الأشقاء والأشجان أشجان/ما مصر ما النوب ما السودان فى مثل/ إلا توائم يُحييهنّ شريان/قد وحدتها يد الرحمن محسنة/ما وثّق الله لا يوهيه إنسان). ومن السودان الشاعر والملحن والمطرب النوبى خليل فرح. كتب فرح ولحن وغنى لوحدة أمتى وادى النيل السودان ومصر، أغنيته سمعناها كثيراً فى إذاعة ركن السودان بالقاهرة (ِنحنَ ونحن الشّرف الباذخ /دابى الكر شباب النيل/ِنحنَ فدايتك، نحن حمايتك/ نحن نموت ويحيا النيل/ِنحنَ الصّولة. نحن الدولة /نحن كنانة إسماعيل/نحن بَرَانا نحمى النيل/ما فيش تانى مصرى سودانى/نحن الكل ولاد النيل).
لماذا أسرد كل هذا؟ لأبين عشق النوبيين لمصرهم وسودانهم، إصرارهم على وحدة البلدين. لأبين للقارئ كم الظلم الذى نحس به حين يتهمنا جاهل بالانفصالية.