فشل الديمقراطيون مرتين خلال فترة وجيزة فى إدانة الرئيس السابق «ترامب» وعزله، فى محاولات تؤشر إلى مناورات سياسية اتبعها الديمقراطيون لإقصاء الرجل ليس لخلاف أو نزاع سياسى بين الحزبين، وإنما لحسم صدام مع الرجل الذى تمرد على المؤسسات الأمريكية التقليدية، ونجح فى حشد عشرات الملايين الأمريكيين ضدها.
فى المرة الأولى، كانت اللعبة غاية فى الوضوح، اتهامات بمخالفات ووقائع، سبقت انتخابات التجديد النصفى لغرفتى البرلمان، واستهدفت حالة من الكراهية والتحريض ضد الرئيس، لاستثمارها فى المعركة الانتخابية، وكان الجميع يعلم تمام العلم أن الديمقراطيين لا يملكون أى فرصة، لحشد الأصوات المطلوبة لإدانة الرجل وإقصائه.
أما الثانية والأخيرة، فكانت الفرصة التاريخية أمام الديمقراطيين للنجاح فى إقصاء الرجل نهائياً عن المشهد السياسى الآن وغداً، وتثبيت أغلبيتهم فى الغرفتين بمزيد من الإضعاف لنفوذ معارضيهم التاريخيين الجمهوريين، وهم يعلمون أيضاً أن تحصيل الأصوات المطلوبة تكاد تكون منعدمة، رغم تكتيك التحريض بتحذير معارضيهم وخلق مناخ إساءة لسمعة مَن يرفض التصويت ضد «الفاشى»، كما يصفه معارضوه، ورغم اليقين باستحالة تحقيق الهدف الآن، فالأجواء السياسية المطلوبة كانت المحرك الرئيسى للاستمرار فى المحاولة.
الحاصل أن «ترامب» رغم كل الحملات المحمومة ضده، سواء من خلال المحاكمتين، أو حشد منصات الميديا ضده على مدار أربع سنوات، فإنه تمكّن من تأسيس تجمع شعبى خاص به يضم نحو 75 مليون ناخب، وهو رقم يؤشر إلى أن مستقبل مشهد الصراع ليس هيناً أو أنه بات مستقراً وانتهى كما يتصور البعض، كما أنه يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة جديدة على المشهد الحزبى الأمريكى، ربما تؤدى إلى تغييرات واسعة فى الانحيازات الشعبية بعد عهود وحقب طويلة من استقرار مشهد وأدوات السياسة فى أمريكا.
ظنى أن قادة الحزب الجمهورى الذين امتنعوا عن الانضمام لمحاولة إدانة «ترامب»، سيتحركون سريعاً لاستثمار هذه الحالة، فى تقوية جدران معسكرهم استعداداً لمعارك التجديد النصفى لغرفتى البرلمان المقبلة، خصوصاً أن البعض يخشى استثمار «ترامب» للموقف ببلورة شعبيته عبر أداة حزبية خارجة عن الحزب الجمهورى، أو على الأقل تشكيل كتلة سياسية لنفوذه داخل الحزب، تتيح له أن يلعب دوراً أقوى داخل الحزب، وتُمهد له الترشح لرئاسة 2024.
«ترامب» جاء من خارج مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة قبل 4 سنوات، ونجح فى الحصول على تأييد شعبى واسع، وأثبت وهم كذب استطلاعات «الميديا» المزعومة، وحصل على تأييد الجمهوريين لترشحه «من خارج الحزب»، ودخل فى مواجهات عديدة وعنيفة طوال فترة رئاسته مع دوائر القرار الرسمية التقليدية، التى اعتادت على فرض تصوراتها وأدواتها فى إدارة شئون البلاد ومصالحها الخارجية، ويبدو أنه -ترامب- ينوى إعادة الأمر مجدداً، خصوصاً وهو يستحوذ على تصويت شعبى واسع، كما نجح فى الإفلات من مناورات الديمقراطيين مرتين لإدانته وإقصائه عن المشهد السياسى نهائياً.
لذلك، فإن إصرار الديمقراطيين على الدفع بمؤامرة «ترامب» ضد الديمقراطية يثير تساؤلات عديدة، ليس من قبيل مسئوليته أو عدمها عن الظواهر التى شهدها فناء الكابيتول واقتحامه من مواطنين أمريكيين، أو من زاوية التخلص منه مرة وللأبد، ولكن من زاوية الإصرار على تجاهل وإبعاد صورة واقعية حقيقية، تتجه إلى المزيد من التبلور واحتمالية توليها مكانة متقدمة فى قناعة الأمريكيين، وهى مفاهيم تمييز العرق الأمريكى والسمو على العالم ومواجهة الأقليات غير البيضاء، وغيرها من المفاهيم الأساسية التى يتكون منها ويتشكل الوعى الشعبى، والنظرة إلى المصلحة الأمريكية فى الداخل والخارج، وهى مكونات تتعارض مع نسيج ثقافى واجتماعى فرض نفسه لحقب طويلة على المجتمع الأمريكى، وشكّل ثقافة وفكرة القبول بالآخر.
ربما استهدفت أغلبية الديمقراطيين إقصاء «ترامب» أولاً، ومنعه من الترشح مجدداً فى الانتخابات المقبلة، تمهيداً للتعامل مع التداعيات المجتمعية التى بلورها الرجل، ونجح فى إزاحة التراب عنها ورفعها من أسفل جذور المشهد العام إلى صدارة المنافسات الشعبية، لكن ما يقلل من احتمالات هذا السيناريو، هو الإصرار على أن ما جرى فى الكابيتول من حصار واقتحام، مجرد نتائج لتحريض «ترامب» لأنصاره، وليس لوجود قناعات مختلفة عند قطاع واسع من الأمريكيين بات مختلفاً عما كان سائداً مسبقاً.
ولعل ما يدعم فكرة بوادر مشهد سياسى جديد فى القارة الأمريكية، إعلان «ترامب» عقب انتهاء وقائع محاكمته وتبرئته بدء مرحلة جديدة، سيستجمع فيها أنصاره لمواصلة ما يراه لبناء أمريكا الجديدة أو استعادة أمريكا الحقيقية، والرجل لم يحدد إذا كان تجميع أنصاره سيتم من خلال بناء حزب جديد ينافس العملاقين المسيطرين على الحياة السياسية، أم من خلال الانخراط أكثر وأكثر داخل الحزب الجمهورى، خصوصاً بعد تواتر أنباء عن بدء حملات تحريضية وإساءة فى بعض الولايات ضد نواب جمهوريين انضموا للديمقراطيين وصوّتوا ضد «ترامب»، وهى النزاعات التى رصدها أحد رموز الحزب الجمهورى ليندسى جراهام، ودعا إلى توقف هذه النزاعات، مُعبراً عن قلقه من تأثير ذلك على انتخابات الشيوخ والنواب 2022، مؤكداً أن «الرئيس ترامب هو الجمهورى الأكثر أهمية فى الحزب. إذا لم يفهم ميتش ماكونيل -زعيم الأقلية بالشيوخ- ذلك، فإنه يفتقد الكثير.. نحن بحاجة إلى القضاء على هذا الخلاف».
المؤشرات الحالية تقول بوجود إصرار على استبعاد فكرة تحرك هذه الكتلة الكبيرة من المواطنين تجاه الكابيتول بناء على قناعات ورؤى تنحاز لرفض الواقع الذى كان قائماً قبل تولى «ترامب» رئاسة البلاد، وهى لا ترتبط بتحريض مباشر من الرجل، وإنما بمتغيرات كانت موجودة لكنها مكتومة ووجدت متنفساً لها فيما حصل، فقررت التنفيس عن نفسها، مدفوعة بالطبع بتأييد وقناعة بالرئيس «ترامب» وأفكاره ودعواته لاستعادة المجد الأمريكى.
من المُحتمل وبصورة كبيرة أن تتبلور تلك التجمعات فى القادم، وأن تمثل عنصراً أساسياً وجوهرياً فى المعادلة السياسية بالبلاد، وفى الأغلب سيتوقف الأمر على تفاعلات المعسكر الجمهورى من ناحية، وتحركات «ترامب» من ناحية أخرى، واحتمالات زيادة تعقّد الموقف قائمة إذا اعتبر البعض معركته مع «ترامب» فقط، بعيداً عن المتغيرات العميقة التى شهدتها الساحة الأمريكية مؤخراً.
«ترامب» سيظل عنصراً مهماً فى المشهد السياسى الأمريكى وتفاعلاته.