بعيداً عن قرع طبول التهديد التى يقودها الإعلام الغربى وبخاصة الأمريكى بمناسبة إعلان تقرير الـ«سى آى إيه» عن مقتل جمال خاشقجى فى العام 2018 وعلاقة القضية بولى العهد السعودى محمد بن سالمان، والحديث عن قرار سيعلن الرئيس الأمريكى بايدن اتخاذه ضد ولى العهد والمملكة دون الاكتفاء بمحاكمة بعض من المتهمين وإدانتهم، دعونا نتفق على أن ما يحدث فى تلك القضية لا يمكن النظر له بعيداً عما يحدث فى كل المنطقة من مواقف ذات علاقة بإعادة ابتزاز المملكة العربية السعودية وغيرها من دول المنطقة سعياً لفرض رؤية أمريكية وعودة بشكل مختلف.
فالمتابع للمشهد فى منطقة الشرق الأوسط يرصد اتصالات أمريكية مع إيران لإعادتها إلى ملف الاتفاق النووى الذى خرجت منه الولايات المتحدة فى عام 2018، وهو ملف يزعج منطقة الخليج بشكل عام والمملكة السعودية على وجه الخصوص ويشعرها بالخطر من سماح الغرب لإيران بإنتاج السلاح النووى وتهديد المنطقة. كما يمكن رصد التقارب العربى الإسرائيلى بتوقيع الإمارات والبحرين والمغرب لاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل والتلويح به من قبل دول مثل سلطنة عمان والسودان ومشاورات تضغط على المملكة لقبول التطبيع وإعلانه دون ربط ذلك بحل القضية الفلسطينية. ثم يتزامن هذا مع حادثة ضرب سفينة إسرائيلية منذ أيام فى الخليج العربى تتهم فيها إيران، رغم أن الأسطول الخامس الأمريكى يقبع فى الخليج، ورغم كل قواعد أمريكا العسكرية فى دول الخليج وبطاريات الصواريخ المنتشرة فى شبه الجزيرة العربية بقوات تتجاوز العشرين ألف مقاتل.
ثم تأتى قضية جمال خاشقجى لتعود للسطح بشكل تعتريه الإثارة المسرحية، فتبدأ بطرح تقرير للمخابرات الأمريكية عن قضية أغلقت منذ أكثر من عام بالاعتراف ومعاقبة السعوديين المتهمين فيها، ثم التصريح بأن الرئيس الأمريكى سيعلن موقفاً وقراراً حاسماً ضد المملكة أو ولى عهدها! ثم الصمت وعدم إعلان شىء عن القضية! والاكتفاء بتصريحات الخارجية الأمريكية المطالبة باتخاذ السعودية إجراءات تضمن عدم المساس بالشخصيات المعارضة وتفكيك قوات التدخل السريع التابعة لولى العهد. وتؤكد فى ذات الوقت أن توقيع عقوبات على ولى العهد قد يقوض النفوذ الأمريكى على السعودية.
نعلم أن العلاقات الأمريكية السعودية علاقات قديمة تعود إلى ما قبل إعلان الدولة السعودية الثالثة عام 1932، وقد توطدت تلك العلاقات مع توقيع اتفاقية كوينسى فى فبراير 1945 بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأمريكى روزفلت على متن المدمرة الأمريكية «يو إس إس كوينسى» بعد لقاء «روزفلت» بحلفائه فى الحرب العالمية الثانية فى مالطا لبحث تقاسم النفوذ ما بعد هتلر. تلك الاتفاقية التى نصت على بنود عدة أهمها ضمان الولايات المتحدة الأمريكية لاستقرار السعودية واعتباره جزءاً من مصالحها الحيوية مع تعهد غير مشروط بتوفير الحماية للمملكة ولعائلة آل سعود، مقابل تعهد المملكة بمنح الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة بها للولايات المتحدة. ولذا فالعلاقات بين البلدين ليست مجرد أخبار فى ساحات الفضاء الإعلامى ولكنها علاقات وثيقة يتم فيها تبادل المصالح فى السر والعلن.
كما نعلم أن قضية «خاشقجى» قد حكم فيها على المتهمين بالإدانة منذ أكثر من عام بل ودفع الدية لأسرته كما تداولت الأخبار حينها، إذاً لماذا الآن إعادة فتحها مجدداً؟ ثم لو افترضنا ما بثه تقرير الـ«سى آى إيه» عن تحمل ولى العهد المسئولية المعنوية للحادثة، فهل تحمل الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب المسئولية عن ضرب طائرات أمريكا ملجأ العامرية العراقى 1996؟ وهل تحمل بوش الابن مسئولية التعذيب الجنسى الذى مارسه جنوده ضد نزلاء سجن أبوغريب بالعراق 2005؟ وهل تركت الولايات المتحدة جنودها المتهمين يحاكَمون فى الدول التى مورس فيها الاعتداء؟ بالطبع لا وحديثى ليس دفاعاً عن شخص ولكنه للتنبيه فقط لحالة الابتزاز التى تمارس ضد المملكة فى هذا المشهد العبثى الساعى لمزيد من الاشتعال ومزيد من الاستنزاف المادى للسعودية. إذ يبدو أن الـ396 مليار دولار التى حصل عليها ترامب فى 2017 من السعودية لم تعد تكفى. فعادت أمريكا لممارسة عاداتها القديمة مع عالمنا الذى لا يزال يصدق أنها شريك استراتيجى، وحليف يصدق وعده فيدفع كلما ضغطت عليه للأسف.