من أغرب التصريحات التى تلفت الانتباه قول متحدث رسمى للخارجية الأمريكية: «أعتقد أننا فى حالة تفاوض مع إيران بشأن الاتفاق النووى»، مضيفاً أن الأمر يتم عبر قنوات غير مباشرة، من بينها أطراف أوروبية. غرابة التصريح تأتى من كلمة «أعتقد»، والتى تعنى أن الأمر ليس مؤكداً، وإنما هو شعور لدى صاحبه بأن هناك شيئاً يحدث بغرض التوصل إلى ترتيبات معينة لاحقاً.
التفاوض كما هو معروف للعاملين فى مجال الدبلوماسية والمنظمات الدولية وأيضاً بين أصحاب الأعمال بمستوياتهم المختلفة والمصارف الكبرى، يعنى عملية معقدة للغاية حول مصالح مهمة للطرفين أو الأطراف المتفاوضة، وتهدف إلى تقريب المسافات والوصول إلى اتفاقات يراها المفاوضون تتناسب مع أهدافهم ومصالحهم المشتركة.
والمعتاد أن تتم هذه المفاوضات فى الغرف المغلقة وتُحاط بقدر من الغموض، ويتم تبادل المعلومات المتعلقة بالقضية محل التفاوض بتدرّج لا يخلو من سرية أو تضليل متعمّد بهدف التأثير على قرار الطرف الآخر. وحين ينتهى الأمر بالتوصل إلى اتفاق محدّد المعالم يمكن نشره كاملاً أو أجزاء منه وفقاً لما يرى المفاوضون أنه يحقق لهم أكبر منفعة ممكنة. ولذا غالباً ما تمر سنوات، ويكتشف الرأى العام أن هناك ملحقات سرية أو بنوداً معينة لم يتم توضيحها للرأى العام فى حينه.
فى الوقت الحالى، أصبحنا نجد جانباً من التفاوض التمهيدى، خاصة الدولى، يتم عبر وسائل الإعلام التقليدية، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، كالتغريدات لكبار المسئولين المعنيين، بغرض تحديد خطوط عامة والتعبير عن جدية العرض للطرف الآخر. هذا النوع من التفاوض التمهيدى، وجوهره التصريحات المعلنة، أصبح لا غنى عنه، لأنه يُعد بمثابة تعبير عن نوايا سلمية بهدف احتواء أزمة، ثبت أن حلها لا يتم إلا من خلال تجنّب العنف والإيذاء المادى والمعنوى، والاتصال المباشر مع الطرف المعنى.
فى هذا التفاوض العلنى التمهيدى تتضح بعض المحددات من كلا الطرفين أو الأطراف ذات الصلة بالأزمة، غالباً لا تخلو من غموض أو عرض جاذب أو شروط عامة، وتبقى التفاصيل لحين الاتصال المباشر فى الغرف المغلقة التى يشارك فيها المسئولون من الأطراف المعنية لصياغة وثيقة ملزمة ذات طابع قانونى، تحدّد الإلزامات المتبادَلة وطريقة تطبيقها. وكلما كانت القضية ذات أبعاد متشابكة مع أمور فنية وقانونية وسياسية وعسكرية، كلما أخذ التفاوض على التفاصيل وقتاً قد يمتد إلى عدة أشهر أو ربما أعوام.
وتأتى بعد ذلك المرحلة الأهم، وهى الترويج للاتفاق وإقناع الرأى العام المحلى بأنه حقّق أكبر مصلحة ممكنة للبلاد، ويتلوها اتخاذ الإجراءات العملية، لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
فى واقعنا الراهن تطورات مختلفة تصنّف كمرحلة تفاوض تمهيدى، رغم ما يُثار أحياناً من مواقف متشدّدة من أحد الأطراف. أبرز تلك الحالات الدعوة الأمريكية إلى وقف إطلاق النار فى اليمن، ودعوة أخرى لإيران للتفاوض حول برامجها النووية والصاروخية، ودعوة ثالثة لكوريا الشمالية لبحث برنامجها النووى، ودعوة رابعة للصين لبحث التوترات التجارية، ودعوة خامسة لحركة طالبان الأفغانية لبحث عملية التسوية وتأمين خروج القوات الأمريكية. وهناك أيضاً دعوات أمريكية تجاه أزمات أخرى، ولكنها لا تُصنّف كمرحلة تفاوض تمهيدى، مثل دعوة الأمم المتحدة لإجراء تحقيق دولى حول ما يُثار كجرائم حرب فى إقليم تيجراى الإثيوبى ومسئولية القوات الإثيوبية والإريترية.
جُل تلك الدعوات الأمريكية هى انعكاس للمبدأ الذى أعلنه الرئيس بايدن المتعلق باعتماد الدبلوماسية والحوار لحل المشكلات المختلفة التى تتقاطع فيها المصالح الأمريكية الكبرى فى أقاليم متعدّدة. وهو مبدأ يقترن من وجهة نظر بايدن بالمهام الملقاة على عاتق بلاده، باعتبارها القوة الأكبر والمعنية بسلام العالم من جهة، ووقف الانتشار النووى من جهة أخرى. وواقعياً فنحن أمام عملية تمس أزمات معقّدة، ترافقها شكوك من الأطراف الأخرى فى رغبة الولايات المتحدة لتحقيق سلام مُستدام، وشكوك أخرى تتعلق بطبيعة العرض الأمريكى للتفاوض. فمن وجهة نظر إيران أن مطلب أمريكا بالتزام طهران بالاتفاق النووى والتراجع عن الخطوات التصعيدية التى تم اتخاذها فى الأشهر الستة الماضية، لا سيما رفع مستوى التخصيب النووى، ودون أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات أو جانباً منها أولاً، هو عرض مرفوض، لأنه يعنى انصياع إيران دون مقابل، وهو ما لا يمكن تسويقه فى الداخل أو يقبله المرشد الأعلى. وفى المقابل تطرح طهران منهجية خطوة مقابل خطوة، أى تنازل إيرانى محدّد يقابله تنازل أو تراجع أمريكى محدّد، وهكذا تدور العجلة ويتحقّق التوافق تدريجياً. لكن فى الآن ذاته عدم قبول مناقشة أى شىء يتعلق بالبرنامج الصاروخى أو علاقات إيران مع جماعات أو منظمات تتبع النفوذ الإيرانى فى الإقليم.
فى حالة كوريا الشمالية تبدو مرحلة التفاوض التمهيدى لم تبدأ بعد، فمقابل العرض الأمريكى بالعودة إلى التفاوض المباشر، صمتت بيونج يانج، لم تخرج كلمة واحدة سلباً أو إيجاباً. والتلميح الوحيد الذى أشار إليه الزعيم الكورى كين يونج فى احتفال عسكرى أن بلاده تتعامل خارجياً بمبدأ العين بالعين والسن بالسن. بعض المراقبين فى كوريا الجنوبية يرون هذه الإشارة بمثابة رد غير مباشر على الدعوة الأمريكية، لأنها تعكس تمسّكاً بما تراه بيونج يانج «التوازن» فى أى اتفاق مع الولايات المتحدة أو غيرها، وأن على واشنطن أن تلتزم بتوقيع اتفاق أو معاهدة اعتراف وعدم اعتداء، ورفع العقوبات، لا سيما ما يتعلق بالمواد الغذائية والطبية وإفساح التعاملات الطبيعية لبنوك كوريا الشمالية مع نظرائها فى العالم. وهى مطالب تتردّد واشنطن فى الالتزام بأىٍّ منها، وتطلب أولاً بإنهاء البرنامج النووى الكورى الشمالى والتخلص من القنابل النووية والصواريخ الحاملة لها.
يمنياً، جاء رد حركة أنصار الله الحوثية على دعوة وقف إطلاق النار التى قبلها التحالف بقيادة السعودية، بالرفض، لأنها مؤامرة أمريكية، والمطالبة بما يصفونه بوقف العدوان وفتح المنافذ البحرية والجوية دون قيود قبل أن يوافقوا على وقف إطلاق النار. ثم أعيد تفسير هذا الرفض باعتباره توضيحاً للمطالب الحوثية، وليس رفضاً قاطعاً.
النماذج الثلاثة على هذا النحو بما فيها من دعوات وشروط وشروط مضادة، وفى حال ممارسة واشنطن نفوذاً سياسياً متعدد المستويات، يمكن أن تتحول إلى لقاءات تفاوضية مباشرة لاحقاً غالباً ستمتد لفترة طويلة، أما نجاحها فليس مضموناً.