نتيجة انكماش سوق الإعلانات واتساع سوق التدين الشكلى يشيع على كل القنوات برامج إعلانية هدفها جمع التبرعات من المشاهدين.. هذه البرامج (بيزنس صريح) تنظمها وكالات إعلانية، تشترى وقتاً من القنوات الفضائية وتأتى بمذيع وضيف يحصل على أجر معلوم، وفى الخلفية لافتة لجمعية خيرية يقال إنها هى التى تدعو لجمع التبرعات، وأرقام تليفونات للجمعية حتى يتصل بها المتبرعون.
على قناة فضائية خاصة شاهدت حلقة من حلقات متواصلة عن حملة تسمى (حملة بناء المساجد) هكذا دون تحديد لمسجد معين.. دور الضيف الداعية هو الحديث عن فضل التبرع وأهمية التبرع والثواب الكبير الذى ينتظر من يتبرع، ويساعده المذيع الذى يحصل هو أيضاً على أجره من نقود المتبرعين. أنا لست ضد بناء المساجد، ولكن عدد المساجد التى يتم بناؤها كبير للغاية، عدد المساجد والزوايا فى مصر ١٤١ ألف مسجد وزاوية تقريباً، منها مائة ألف مسجد جامع كبير، فى حين أن عدد المستشفيات التى تعالج المصريين جميعاً ١٨٤٨ مستشفى موزعة على جميع محافظات الجمهورية، أى أن عدد المساجد يفوق عدد المستشفيات بما يقارب السبعين مرة. وإذا انتقلنا من المستشفيات التى تحفظ أرواح الناس وتخفف آلامهم إلى المدارس التى تنير العقول وترسم ملامح المستقبل وتضمن لمصر مكاناً بين الأمم، فإن إجمالى عدد المدارس فى مصر هو ٤٥ ألف مدرسة حكومية، و٧ آلاف مدرسة خاصة، وبحسبة بسيطة سنكتشف أن عدد المساجد هو ثلاثة أضعاف عدد المدارس التى تُعلّم أبناء المصريين جميعاً، والأهم من وفرة عدد المساجد الواضحة هو أن حركة بناء المساجد من قبَل وزارة الأوقاف المصرية لم تتوقف، حيث بلغ عدد المساجد التى تم بناؤها منذ ٢٠١٤ وحتى الآن ١٢٠٠ مسجد، وما قامت الوزارة بتجديده وإصلاحه وإعادة إعماره من مساجد فى الفترة نفسها بلغ ٣٦٠٠ مسجد.
إننى لن أتطرق للحيل العاطفية التى يستخدمها الضيف والمذيع لاستدرار الأموال من المشاهدين البسطاء الذين يشاهدون التليفزيون واستخدامهم لكل ما هو مقدس ونبيل من آيات وأحاديث ومقولات لعلماء.. وسأفترض أن نيتهم جميعاً هى الخير، ولكننى أريد من المسئولين عن هذه البرامج أن يجيبوا عن هذا السؤال إجابة واضحة.. لو أن مشاهداً تبرّع بمائة جنيه للمشاركة فى «حملة بناء المساجد» فكم نصيب الوكالة الإعلانية التى تنتج البرنامج، وكم نصيب القناة الفضائية، وكم نصيب المذيع والضيف؟ وكم نصيب الجمعية التى تنظم الحملة والعاملين وكم نصيب المساجد نفسها؟ إننا لو أجرينا هذه الحسبة البسيطة سنكتشف أن ما يذهب لبناء المساجد (بفرض الرقابة الصارمة والأمانة الكاملة) هو أقل القليل.. ولا أحد يقف ضد بناء بيوت الله، ولكن نشر التعليم أيضاً هو بكل تأكيد مما يُرضى الله سبحانه وتعالى، وعلاج الفقراء والمحتاجين هو بكل تأكيد مما يُرضى الله تعالى.. وأنا أفهم ضمنياً أن جماعة الإخوان فى دعايتها السوداء ضد الدولة المصرية تدّعى أن الدولة تحارب الإسلام وأن الدولة ترد بالتوسع فى بناء المساجد.. وهذا عظيم ويكفى وزيادة.. لكننى لا أفهم ما الحكمة من الدعوة لحملة لبناء المساجد دون تحديد، لا مبلغ معين مطلوب، ولا مساجد معينة يتم بناؤها، ولكنها دعوة عامة مطلقة، مفتوحة، غير محددة المدة ولا الهدف.. إننا فى حاجة لاجتهاد من علمائنا الكبار يقول إن بناء المستشفى والمدرسة وتزويج الشباب المحتاج وسد احتياجات الفقراء وإنقاذهم من مذلة الفقر هى كلها أنشطة لا تقل فضلاً عند الله من بناء المساجد ودور العبادة عموماً.. ذلك أننا نريد تغليب روح الدين على «شكل الدين» الذى تحكّم فى المصريين طول الخمسة والأربعين عاماً الماضية ولعله ما زال يتحكم.