رأيت فيما يرى اليقظ الواعى -من تُشع من مسام جسده حضارة مصر، ومن تشرق من قلبه شموسها القديمة- مشهداً زراعياً ليس مستعاراً، بل يعيد نفسه طوعاً وحباً، فى فُسحة جديدة أخاذة على ضفة من ضفتى «ساحر الغيوم».
استحضرتُ صوت محمد عبدالوهاب، وهو يشدو بكلمات على محمود طه مسترخياً فوق جندوله، يتهادى على أمواج تهدر من أعالى الحبشة جنوباً لتعانق مياه المالح فى الشمال، «أين من عينيك هاتيك المجال»؟.
استحضرت صوت أم كلثوم وهى توقظ النائمين بكلمات المصرى الحاضر دائماً، حافظ إبراهيم فى رائعته القلبية: مصر تتحدث عن نفسها، التى أجتزئ منها بيتين فقط لدلالتهما الوقتية:
وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبنى قواعد المجد وحدى
وبناة الأهرام فى سالف الدهر كفونى الكلام عند التحدى
أتُرانى وقد طويت حياتى فى ميراث لم أبلغ اليوم رشدى
أمِن العدل أنهم يردون الماء صفواً وأن يُكّدر وردى؟
ومع صوتى عبدالوهاب وأم كلثوم، رأيت ملوك الزراعة والخصب والنماء يمخرون عكس مياه النيل من متحف القاهرة حتى منبع مجرى العيون، فى طريقهم إلى الفسطاط، كأنهم يقولون نحن هنا.
لم يتعثر أوزوريس «إله الزراعة والخضرة والبعث» المرتبط بفيضان النيل، فى خطوة من خطواته على أنغام موسيقى أحفاده، ولم ينظر إلى الخلف بحثا عن إيزيس «رمز الوفاء لزوجها ورمز الفلاحة المصرية والسحر والجمال»، ممسكة بأيدى «سخت» إلهة الحقول، التى رافقت الموكب حاملة فوق رأسها مائدة قرابين عليها البيض والطيور وزهور اللوتس، وفى يدها الأخرى «نبرى» إله الحبوب، الذى كان يصدح دون نشاز بنشيد «القمح الليلة يوم عيده».
لم يتخلف عن الموكب العظيم، إله فيضان النيل «حابى» الذى شوهد حاملاً مائدة القرابين وبها خيرات الحقل ونهر النيل، وكان حضوره لتذكير أحفاده بأنه لن يترك من أراد بالنيل شراً، بعد أن وحّد بين دلتانا العليا، وصعيدنا الأعلى.
هؤلاء لم يغيبوا عن مشهد «محمد السعدى» وخالد العنانى، لكنهم ظهروا لمن أراد أن يراهم، مستلهماً قصتهم الأولى فى استنبات أرض مصر بمياه النيل، فنثروا القمح والشعير، واستنبتوا الكتان والبردى الذى وثقوا عليه حضارة، يعجز العالم عن فك أسرارها، وتأسرهم فنونها وسحرها حتى اليوم.
ومع قوة وخيلاء أحفادهم، وموسيقى أجراس المعابد والكنائس وأصوات المآذن وتداخلها المتجانس، كان آلهة النماء المصريون يبعثون آيات الأرض، «بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا»، وكثير مما ورد فى صحائفهم من الفول، والذرة العويجة، والحلبة، والسمسم، والخيار، والخس، كما لم ينسوا دون معايرة أغصان التين، والعنب، والنبق، والجميز، والتمر، والخروع، وحتى الزيتون الذى عرفوه وزرعوه منذ أسرتهم الثامنة عشرة، رغم ندرته.
حمل ملوك الفراعنة الذين غابت مومياواتهم عن مشهد «السعدى والعنانى»، باقات الزهور وأكاليلها، مثل اللوتس، والأقحوان، وأزهار الغلال الزرقاء، وكذلك النبات المعروف باللفاح، وكانوا يعتبرون ثماره رمزاً للحب، كما لم يبخلوا بالتلويح بنباتات النيل البرية مثل: الكرفس والريزومات التى انتقلت من تحت أرجلهم لتغزو العالم الحديث، للطبخ والطبابة وصناعة العطور والتجميل والصباغة، والزينة، مثل: اللبلاب، والسوسن، وشجرة التربنتين.
وعلى باب الفسطاط، انتفض: «حابى» بلا نشاز أيضاً، ملوحاً بقرابين خيرات الحقل والنيل، متوعداً من أراد بأسطورته إعاقة قطرة واحدة كانت سببا فى نماء مصر.