ملمحٌ مهم يجب أن نستفيده من شهر رمضان المبارك، فبجانب أنه شهر الرحمة والمغفرة فهو أيضاً شهر التدقيق والتثبت والتوثيق، ونعنى بذلك الدقة فى الأحكام، والبناء على معلومات صحيحة لا ظنية، وعدم الجرى وراء الشائعات، وتوثيق المعلومة قبل الحكم عليها، وصحة النقل قبل كل شىء.
هذه المعانى السامية هى التى كانت فى ذهن الفقيه حين قرر أن الصائم لو أفطر قبل المغرب وهو يظن أن المغرب دخل، أو أكل بعد الفجر وهو يظن بقاء الليل فعليه القضاء، أى أنه يصوم يوماً بديلاً مكان اليوم الذى أفطر فيه بناء على معلومة خاطئة أو ظن خاطئ.
وفى المقابل فإن الفقيه المسلم قرر أن من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فلا يبطل صومه، ولا يجب عليه القضاء ولا الكفَّارة، فعن أبى هريرة -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ نَسِى وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاه»، فهذا الحديث -وغيره- يدل على أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً فعليه أن يُتمَّ صومَه، ولا قضاءَ عليه، ويومُه الذى أتم صيامه صحيح، ربما باستثناء قولِ مذهبٍ واحد.
الحاصل هنا أن الصائم الذى أفطر بِناءً على عدم التثبت والتوثيق صومه باطل بالإجماع، وعليه القضاء، وأن الصائم الذى أفطر ناسياً صومه صحيح، وسبب ذلك أن الإسلام يُعلى من قيمة التدقيق والتوثيق، ويتجاوز عن النسيان، فالذى لم يتحقق من طلوع الشمس، ولا من غروبها، والذى تشابه معه صوت التلفون بصوت المؤذن الحقيقى فأفطر قبل المغرب أو أكل بعد الفجر كان صومه باطلاً، وعليه قضاء يوم بديل، إعلاءً لقيمة التوثيق والتثبت، حتى لا يبنى الإنسان حباً أو بُغضاً، أو مدحاً أو ذماً أو موقفاً أو تصرفاً على معلومات ظنية غير موثقة.
وقد ذمَّ القرآنُ التسرعَ وعدم التثبت، فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾، وفى بعض القراءات (فتَثبَّتوا)، من التثبّت والتبصر قبل أن تذيع خبراً أو تنشره، أو تعلق عليه، أو تبنى عليه.
وعلى ذلك فإن للصوم أهدافاً كثيرة، منها أن يتعلم الصائم التدقيق والتثبت فيما يقرأ ويسمع، وإن كان التثبت ضرورياً فى كل وقت، فإنه بالأهمية القصوى فى عالمنا اليوم الذى نتلقى فيه آلاف المعلومات فى اليوم الواحد، فنجد من يخلط بين المعلومة الصحيحة والإشاعة، وبين الكلام المقتطع من سياقه والتصريح غير المقتطع، ويبنى فكره بل حياته كلها على أوهام وأكاذيب وخرافات، ثم بعد ذلك يزعم أنه صائم.
ومن أجل ذلك انتشر مفهوم «التبيُّن والتثبت» ليعبر عن هذا المبدأ، فالتبين: علم يحصل بعد التباس وغموض وظن وحيرة، فيحدث تثبت وتأنٍ وعدم عجالة، والتثبت: هو التأكد من صحة الخبر قبل قبوله ونشره والتعامل معه، والتثبتُ من صفات أصحاب العقل المنضبط، ومن مكونات عقل المسلم، بخلاف العجلة والرعونة والطيش، وفى الحديث الشريف «التأنى من الله، والعجلة من الشيطان».